طوال اثنتي عشرة سنة، قضيناها على مقاعد الدراسة المدرسية، اعتقدنا بأنّ الأنهار في لبنان تنحصر في أربعة عشر نهرًا، منها نهر بيروت، ونهر الكلب، والليطاني، والعاصي، والنهر الكبير الجنوبي الذي يقع شمالَ لبنان... لكنَّ فَصْلَ الشتاءِ سنويًا يَضَعُ أساتذةَ الجغرافيا أمَامَ أسئلةٍ قَدْ لا يتمكَّنُ طلابُهم مِنَ الحصولِ على الإجاباتِ التي تَشْفي نَهَم َالمعرفةِ فيهم...
يأتي فصلُ الشتاء، وكأنَّه يقولُ للبنانيين: «عليكمْ بِمراجعةِ الجغرافيا التي تعرفون!»
يأتي عابسًا بغيومِهِ الرماديةِ رَغْمَ جمالِها، يُفْرِغُ دموعَه التي حَبَسَها لِشهورٍ يَنْشُدُ راحتَها في حنايا الأمِّ التي تَحْضُنُ الحياةَ في ثَراها... فَقَدْ تعوَّدَ أنْ يخبِّئَ حُزنَه نقطةً نقطةً داخِلَ صخورِها، لأنّه يعرف أنّه عند الرحيل ستشتاق الأرض إليه، والشجر، والورد، والوحش، والبشر على الرَّغم مِنْ قَسْوتِه الظاهرة...
لكنَّه وَمُنذُ أعوامٍ، لا يعلَمُ عدَدَها، فوجِئَ بأنَّه يَصْنَعُ مئآت وربّما آلاف الأنهار التي تنفَجِرُ بالناس أذًى لا حياةً، وتضعُهم في حيرةٍ من أمرِهم... بَلْ في أمورهِم... لذلك عاد إلى جغرافيا البلدِ الذي يلتزمُ بإرسالِ دموعِه فيه، فإذا بِهَذِه الأنهار غير موجودة، وعاد لِدَفترِ الشُّروطِ الذي يلتزِمُ به، فإذا بهذه القدرات عنده غير مذكورة! «أَمُؤامرةٌ يا ترى؟؟؟
حارَ الشتاءُ وضاعَ في التفكير... ولا تَزالُ هذه الأنهارُ تَبْتسمُ في وجهِه ابتسامةَ المُنتصِر...
هذه الأنهار التي تجهلُها الجغرافيا وحتى التاريخ، مُصمَّمَةٌ «لبنانيًا» لتكون إحدى الميزات المناخية التي تصنعُ وَجْهَ لبنانَ الفريد...
أكُنتَ تعتقد بأنَّ لبنان يمتاز فحسب بأنَّ الشاطئَ قريبٌ فيه مِنَ الجبل، وأنَّكَ خلالَ ساعةٍ واحدةٍ يُمْكنُكَ أَنْ تكونَ على قمَّةِ الجبلِ تتزلّجُ ثمّ تنتقل لتسهرَ في بيروت ؟! كلا... فَلُبنان يقدِّمُ لك المزيدَ مِنَ المفاجآت!!!
«كَمْ عددُ الأنهار فيه؟» سَتجيبُ بِالطَّبع- كما عُلِّمْتَ: «14 نهرًا!»... كلا... كلا... كلا... هذه الأنهارُ الأربعةَ عشرَ هي المعتمدةُ رسميًا! هُنَاكَ الكثيرُ غيرها بَعْدُ!
لبنانُ معجزةُ الأنهارِ المتفجّرةِ السيّالةِ الدفّاقَةِ! تُقابِلُكَ في الشوارع كافة التي تمرُّ بها والطرقات، في الجَبلِ كما على الساحل! وهي تَتَرافقُ أحيانًا ببحيراتٍ تكادُ تُنافسُ بحيرةَ «تنجانيقا» و«بايكال»، ومثلّث «برمودا»... ذلكَ أنَّ البحيرات اللبنانية المستحدثة شتاءً «أسطوريَّة» تُعلِّمُ الآلاتِ والبشرَ كَيْفِيَّةَ العَوْمِ وَالسباحةَ وَالغطسَ، وكأَنَّ اللبنانيَّ لا ينقُصُه عَوْمٌ وَسِباحةٌ وَغَطسٌ في الحُفرِ التي تَزْدَانُ بِها الطرقاتُ على اِمْتِدادِ العامِ بَلِ الأعوامِ!
وَالسَّبَبُ بِكُلِّ بَسَاطةٍ سُوءُ تقديرٍ!
فَخِلال عملياتِ شَقِّ الطرقاتِ أو البناءِ وما يتَّصلُ بِالعمرانِ والبُنَى التَّحتيَّةِ، يَكَادُ يُشْبِهُ الأمرُ لُعْبةً تُرْسمُ على وَرَقٍ، بِأَبعادٍ ثنائيةٍ تَتَجاهلُ عن عَمْدٍ أو جَهْلٍ أو سَهْوٍ أنّه هناكَ بُعدٌ ثالثٌ تحترِمُه المياه...
تُشَقُّ الطرقاتُ وتُعْلى البناياتُ، ولا أقنيةً ومجارٍ قادرةٌ على اِستيعابِ المياهِ المتدفِّقَةِ إليها إذا وُجِدتْ، هذا إذا لَمْ تَعْجَزِ المياهُ عَنْ بُلُوغِ الفوهاتِ الموصلةِ إليها، لأنَّ انِحدارَ الطريقِ يَميلُ باِتِّجاهِ تَدفُّقِ المياهِ إلى وَسَطِ الطَّريقِ أَو ِالْجِهَةِ المُعَاكِسَةِ لِلْمَجْرَى، وَعَلَيْهِ، مَنْ لا يَتَمَكَّنُ مِنْ رؤيةِ البُرَكِ الطبيعيةِ خِلال فصولِ السنةِ المُختلِفَةِ، تمتدُّ أمامَهُ خياراتٌ مِنْ بُرَكٍ «مصنوعةٍ» وأنهارٍ في كُلِّ طريقٍ يَكَادُ يَسْلُكُه... حتَّى في الطرقاتِ الجبليَّةِ، التي تُضيفُ إلى مياهِ الأنهارِ الجاريةِ والبحيراتِ الحجارةَ وَالحصى وَالطِّينَ...
لبنانُ يَعْتَدِي فِيهِ الإنْسَانُ على مجاري الأنهارِ الطبيعيةِ فِيهِ، يَبْنِي فِيها، يَرْمِي فيها كلَّ مَا يَخْطُرُ على الْبَالِ مِنْ نُفَايَاتٍ وَمُخَلَّفَاتٍ، وَكَأَنَّهُ يُريدُ القَضَاءَ على مَا أَوْجَدَتْهُ الطبيعةُ، لكنَّه في المُقابِلِ يَتسبَّبُ بِأنهارٍ تَفيضُ في الشِّتاء في كُلِّ مكان!
هذا العامُ لَمْ يَغْرَقِ الناسُ حتى اليوم في نَفَقِ المطارِ وَبَعْضِ الأنفاقِ الأُخْرَى، لكِنَّهُم بِالتَّأكيدِ خَاضُوا غِمَارَ أنهارٍ يُسَجِّلُها لِلُبنانَ التاريخُ...