Advertise here

لبنان في سباق بين الاحتواء والانفجار

02 شباط 2022 12:52:02

يهوي لبنان مسرعاً نحو قعر الهاوية، في سباق محموم بين التصعيد والاحتواء، وفي ظل انهيارٍ اقتصادي ومالي، وتفكّك مؤسّساتي، وانقسام سياسي واجتماعي عمودي حاد لم يشهد له مثيلاً في تاريخه الحديث. وكان البنك الدولي وضع تصنيف الأزمة الاقتصاديًة والمالية كواحدة من الأزمات الثلاث الأشد قساوة في العالم منذ منتصف القرن الماضي، حيث يشبّه بعض الباحثين الوضع الحالي بما شهده لبنان في نهاية الحقبة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، أو ما يعرف بالمجاعة التي قضت على آلاف المواطنين من سكان جبل لبنان والساحل السوري خلال حرب الـ 14، والتي ترافقت مع حصار بحري فرنسي – بريطاني للموانئ الساحلية، والتي منعت دخول المواد التموينية، وموجة جراد قدِمَت من اليمن، والتي يذكر المؤرخون أنّها غطّت سماء لبنان وحجبت نور الشمس على مدى أربعة أيام قضت خلالها على النباتات والمزروعات الخضراء والأعشاب اليابسة.
 
تتشابك وتتداخل عناصر عدة، داخلية وخارجية، في تسريع حدة الانهيار الشامل وانعطافه نحو الارتطام الكبير الذي قد تنتج عنه مخاطر تشظي الدولة وتفتّت مؤسّساتها الهشّة فيما لو وقع المحظور قبل الإمساك بحبل نجاة الدعم الدولي، وإقرار حزمة إصلاحات اقتصادية ومالية قاسية، واتّخاذ قرارات وطنية جريئة تعيد لبنان إلى موقعه الطبيعي ضمن الحاضنة العربية وفق عناوين المبادرة الكويتية- الخليجية التي حملها وزير الخارجية الكويتي إلى لبنان، والخروج من سياسة المحاور والتبعيّة لإيران، والشروع في استكمال تنفيذ اتّفاق الطائف، ووضع آلية تنفيذية لإلغاء الطائفية السياسية للخروج من الدوران في الحلقة المغلقة التي تتيح للنظام إعادة تجديد نفسه.
 
يقع لبنان على فالقٍ إقليمي متغيّر، ويعاني منذ نشأته انقساماً حاداً بين مكوّناته الطائفية. يتحوّل هذا الانقسام الأفقي الحاد إلى صراع خفي داخل المؤسّسات وعلى السلطة أحياناً، وعلني يتلبس لبوساً عنيفاً أحياناً أخرى، لينزلق تدريجياً إلى حربٍ أهلية تتحوّل معها البلاد إلى ساحة تجاذب لنفوذ الدول الإقليمية ومصالحها المتناقضة، وصندوق بريد لرسائلها الدموية.

 وإذا كانت التسويات بين تلك الدول توفّر الهدوء والاستقرار، والنمو الاقتصادي والبحبوحة من حين إلى آخر لهذا البلد المتوسطي الجميل فإنّ التجاذبات الداخلية بين القوى السياسية لم تسمح خلال سنين التسويات ببناء دولة متماسكة مستقلة ذات سيادة، وتحكمها مؤسّسات وطنية تلبي متطلبات العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين. فالعجز شبه الكامل، وعدم قدرة الدولة في السيطرة على الأمن والحدود والسلاح غير الشرعي، وعجزها عن توفير الخدمات العامة وضمان الرفاه الاجتماعي، وإدارة الموارد الاقتصادية وتحقيق الإنماء المتوازن، أبقت لبنان على شاكلة الدول الهشّة. وقد ساهمت التوترات الإقليمية واختلال موازين القوى منذ سقوط بغداد عام 2003 بيد الجيش الأميركي، وتداعياتها المختلفة بإبقاء لبنان في حالةٍ من التوتر واللّا- استقرار خاصة بعد زلزال 14 شباط 2005، الذي أودى بحياة الرئيس رفيق الحريري ورفاقه.
 
حتى الصيف القادم، أمام حكومة الرئيس ميقاتي بين ثلاثة إلى ستة أشهر، إذا جرت الانتخابات النيابية في موعدها المقرر 15 أيار القادم. وفي حال لم تجرِ الانتخابات فإنّ عمر هذه الحكومة سوف يطول حتى نهاية العهد في الخريف المقبل، أي أنّ الأمور سوف تبقى على حالها بين الانهيار، والاحتواء، والتصعيد، والتهدئة، دون الدخول في أية حلول مستدامة، حيث المنطقة ما زالت تنتظر نتائج المفاوضات الأميركية – الإيرانية، وما إذا كانت ستفضي إلى اتفاقٍ مؤقت، أو التوصّل إلى اتفاقٍ دائم. ولكل من الخيارَين تداعياته المختلفة، كما أنّ مسار الحلول في سوريا يكتنفه الكثير من الغموض والتعقيد، وكذلك التسوية السلمية في فلسطين المحتلة معلقة حتى إشعارٍ آخر، فيما يستمر الوضع العراقي على حاله بين التعطيل والتصعيد.

وفيما يقف لبنان على مفترق الأزمة الداخلية والإقليمية، فإنّ الأطراف المشتبكة فيه، حزب الله وحلفاؤه وخلفهم إيران، والقوى الأخرى المؤيدة للمبادرة الفرنسية التي تحظى بالمظلة الأميركية، في الوقت الذي انخرطت فيه السفيرة الأميركية في لبنان في إدارة الأزمة إلى جانب مندوبي الإدارة الأميركية، وأمامهم مواضيع محددة: نقل الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان، وتأمين مرورهما عبر سوريا، وموضوع ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، وموضوع حماية مؤسّسة الجيش وتوفير الدعم المالي والعسكري لها، وعلاقة هذه المؤسّسة بوحدة لبنان ومستقبله، إضافةً إلى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي التي بدأت تأخذ مسارها المباشر بعد أن عادت الحكومة إلى الانعقاد إثر تعليق الثنائي الشيعي اعتكافه، تسهيلاً لإقرار الموازنة ومجموعة من القوانين والمراسيم الحياتية الضرورية، وفق بيانها.
 
تمارس واشنطن وباريس سياسة الاحتواء للحالة اللبنانية ومنعها من الانفجار أو الانهيار الشامل. وتتجسّد تلك السياسة في احتضانهما لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي، التي يمتلك بعض أعضائها الخبرات الجيدة في إدارة ملفاتها، حيث كان عددٌ من الملفات يسلك طريقه إلى التنفيذ تحت غطاء التوافق غير المعلن طيلة الأشهر الأربعة من تعطيل انعقاد جلساتها، حين اصطدمت تلك التوافقات بمقتضيات إقرار الموازنة، ومتطلبات مناقشتها وموافقة ثلثَي أعضاء الحكومة عليها قبل إحالتها إلى المجلس النيابي للتصديق عليها. ودون أي سبب مقنع التأم شمل المجلس، ما يعني أنّ الأطراف الداخلية المتصارعة تعرف حدود الخطوط الحمراء التي لا يمكنها تجاوزها، وتعرف أنّ قواعد الاشتباك في مضمونها قائمة على التفاهمات والمهادنة وتسيير الأمور بمعزلٍ عن المواقف السياسية. فالاحتواء الأميركي – الفرنسي لحزب الله، ولحكومة الرئيس ميقاتي، وكذلك حماية البنك المركزي والجيش، والسعي الحثيث لحل مشكلة الكهرباء جزئياً، والدفع باتّجاه ترسيم الحدود بإشراف مباشر من واشنطن، حيث أنّ هذه القضايا ترتبط بالاستراتيجية الأميركية – الفرنسية التي تقول "لن ندع لبنان ينهار"، فهذه السياسة سوف تستمر على حالها إلى حين تبلور وجهة السياسات الكبرى ونتائجها، كالاتفاق حول الملف النووي الإيراني، والعلاقة بين دول الخليج العربي، لا سيّما الرياض مع دمشق وطهران، حيث نشهد يومياً سياسة التصعيد في مكان والتهدئة في مكان آخر.
 
في المقابل تحمل الأحداث التي شهدها الأسبوع الفائت عناصر تصعيد قد يخرج عن السيطرة، لا سيّما النتائج المترتبة عن الرسالة التي حملها وزير الخارجية الكويتي، الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح، خلال زيارته إلى لبنان مفوضاً من دول الخليج العربي وجامعة الدول العربية والمجتمع الدولي، والتي اعتبرها بمثابة "خريطة طريق لإعادة بناء الثقة مع لبنان"، وتستند على تنفيذ القرارات الدولية الخاصة بلبنان 1559 و1701 وغيرها من القرارات ذات الصلة، وبعض الإجراءات الأساسية لوقف توريط لبنان بالمشكلات مع دول الخليج العربي، كمشاركة حزب الله في حرب اليمن، وتحويل لبنان منصة إعلامية لمهاجمة دول الخليج العربي، وتهريب المخدرات، وغيرها من الأمور. وهذا الحدث يجعل من الاشتباك الإقليمي ذي خاصتين، الأولى: الاشتباك الإيراني – الأميركي، وطريقة إدارة واشنطن لهذا الاشتباك، والاشتباك الإيراني – السعودي، وعلاقته بالملف السوري والملف اللبناني.
 
تبنّت فرنسا أثناء زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الرياض الموقف السعودي بالشكل، لكنها لم تضع آلية عمل سياسية مشتركة لتنفيذ تلك الخريطة، فثمة مساحة مستقلة وفصل بين الصراع السعودي – الإيراني من جهة، وبين الصراع الأميركي – الإيراني من جهة أخرى. فالرياض تتبنّى في صراعها مع طهران مواقف واشنطن، ولديها استراتيجيّتها ومطالبها الخاصة والتي عبّرت عنها بالعزوف عن الدخول في الملف اللبناني والاستجابة لمتطلباته، سيّما وأنّ الصراع في اليمن وصل إلى حد الاحتدام لحظة القصف الصاروخي الذي طال الإمارات العربية المتحدة للمرة الأولى متجاوزاً كل الخطوط الحمراء، إضافةً إلى خطف السفن في المياه الدولية، والذي ردّت عليه قوى التحالف العربي بضربات نوعية ومؤثّرة.
 
من جهة أخرى، أثار موقف عزوف الرئيس سعد الحريري عن العمل السياسي، وعدم ترشّحه وتيار المستقبل في الانتخابات النيابية المقبلة، جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية الحليفة والمعارضة له. فبعيداً عن الأسباب الخاصة التي لم يُفصح عنها في المؤتمر الصحفي، إلّا أنّه رمى الكرة في ملعب حزب الله وحلفائه ليقول، "إذا كان الاعتدال الذي يمثّله مشروع الحريري في لبنان مرفوضاً مطلقاً من حزب الله والتيار الوطني الحر، فإنّ انسحاب القوة السنّية الاعتدالية التي تُعتبر الموازن والمعادل الموضوعي لحزب اللّه، الأكثر تطرفاً في البيئة الشيعية، (يعني أنّ) ثمة شيئاً ما يجب مراجعته في هذا المجال، سيّما وأنّ ميثاقية العيش المشترك تقتضي الاعتدال لا التطرف". ففي هذا السياق ثمة أسئلة تطرح نفسها: ما هي قيمة التسويات إذا نجحت في تجنيب لبنان حرباً أهلية على حساب اختلال التوازن الداخلي والميثاقية؟ وماذا لو كان سعد الحريري متطرفاً وصلباً في صراعه مع حزب الله، وسمح للطائفة السنّية امتلاك السلاح، والانجراف خلف شعارات تنظيم داعش، كما كان يتهمه حزب الله، فأين كان لبنان الآن؟ لذلك فإنّ انسحاب الرئيس سعد الحريري وتيار المستقبل من المشهد السياسي الداخلي سيترك فراغاً كبيراً في التوازنات الداخلية.
 
المشهد الإقليمي – الداخلي بتشعباته المختلفة يضع لبنان، بما فيه من خبرات وتجارب سياسية وتراكمات ثقافية وعلاقات دولية عميقة، أمام خيارين لا ثالث لهما:

الخيار الأول: اعتماد منطق الدولة التي تنتج سياسة منضبطة على إيقاع اتفاق الطائف والقرارات الدولية ذات الصلة بلبنان، والقرارات التي تحافظ على العلاقة السليمة مع المحيط العربي، الممثّل بالشرعية العربية عبر جامعة الدول العربية، وبصداقاته التاريخية العميقة مع دول الخليج العربي، لا سيّما المملكة العربية السعودية بما تمثّل.

الخيار الثاني: أن يعود لبنان ليسلك مجدداً طريق الدول الفاشلة ويحجز لنفسه مكاناً على قائمة الدول القائمة على خيار حلف الأقليات الطائفية (الشيعية – المارونية – العلوية..)، وهذا الحلف المدعوم بقوة من إسرائيل واللوبي اللبناني - الأميركي في واشنطن يمتلك تأثيراً في الكونغرس الأميركي وفي مؤسّسات صناعة القرار في البيت الأبيض، وقد عُقد العديد من المؤتمرات، وجرت العديد من المناقشات لبحث هذا الأمر الذي يعبّر عنه البعض في الداخل بالدعوة لاعتماد اللّا- مركزية الإدارية والمالية الموسّعة، أو الفيدرالية. فدولة لبنان القائمة على أساس القرارات الدولية والشرعية العربية واتفاق الطائف شيء، والدولة اللبنانية القائمة على قاعدة حلف الأقليات شيء آخر.
 
مصادر دبلوماسية مخضرمة رأت في حديثٍ مع "الأنباء" أنّ اعتماد أيٍ من الخيارين يرتبط بعدة مواقف: الموقف الأول يتعلق بمصير الاتفاق النووي الإيراني مع أميركا والدول الغربية ونتائجه وتداعياته، والموقف الثاني يرتبط بنتائج الانتخابات النيابية، والتي قد لا تكون مختلفة كثيراً عن سابقاتها، لكن حماسة المجتمع الدولي، لا سيّما باريس وواشنطن لإجرائها يستند إلى  سياسة احتواء حزب الله تحت شعار الديمقراطية واحترام نتائج الانتخابات، والتي سيكون لحزب الله وحلفائه حصة الأسد فيها بحكم القانون المعتمد، وهذا يذكّرنا بقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أمام قصر الصنوبر، "أنتم انتخبتم هؤلاء".
 
وتتابع المصادر الدبلوماسية، "إذا رصدنا مسار القضايا الدولية الكبرى، النووي الإيراني، وأزمات الشرق الأوسط، نكتشف أنّنا في مرحلة انتظارٍ صعبة إلى حد الاختناق، وأمام إعادة بناء وتكوين المواقف، حيث أنّ كل طرف يعيد تشكيل نفسه ويحدّد أولوياته". وتضيف المصادر، "إذا كان هدف السياسة الأميركية والفرنسية منع الانهيار الآن، فانها بعد الانتخابات النيابية، إذا جرت في موعدها، سوف تتقدم بخطة إنقاذية شاملة تتم مناقشة أفكارها في مراكز الأبحاث، وفي مواقع صناعة القرار في واشنطن، خاصةً حول كيفية تطبيق القرار 1701، وتوسيعه من خلال تحييد المرفأ والمطار والحدود، وإعادة إحياء مشروع بيروت مدينة مفتوحة ومنزوعة السلاح، وغيرها من العناوين التي تُطرح حالياً في وسائل الإعلام بغية رصد تداعياتها من جهة، واعتبارها كمؤشّرات تفضي إليها الأزمة لاحقاً من جهة أخرى. وفي هذا الانتظار القاتل يسير لبنان في خطى بطيئة على وقع مقاربات الحلول التي يخرج بها مجلس الوزراء في إدارته للأزمة، وإلقاء أعباء الانهيار الاقتصادي على المواطنين، حتى نهاية الصيف، أو نهاية العهد في الخريف المقبل.