Advertise here

الاستحقاقات الداهمة وسيادة الدولة

31 كانون الثاني 2022 18:15:20

تستكمل الأزمة السياسية اللبنانية حلقاتها الداخلية والخارجية على وقع إنهيار إقتصادي ومالي كارثي يكاد يطيح بكل مقومات العيش اللائق والكريم للمواطن اللبناني. وفي ظل هذا الواقع المتأزم يطرح مجدداً تحدي بناء الدولة ومؤسساتها التي فشل اللبنانيون في تحقيقه حتى بعد إنتهاء الحرب الأهلية، ويترافق ذلك مع هاجس مستجد من شقين :

الأول: خشية الذهاب إلى المواجهة في الداخل بين محوري الصراع على مستوى الإقليم وهذا ما توقعه كثيرون.

والثاني: خشية الوقوع في خلل التوازن الوطني تحت سقف نظامنا السياسي الطائفي الهش، والتي برزت مع إعلان الرئيس سعد الحريري تعليق عمله وعمل تياره السياسي.

وقد أتت المبادرة الخليجية التي حملها وزير خارجية الكويت لتعبر أوضح تعبير عن السخط العربي عموماً والخليجي خصوصاً لما آلت إليه سياسة لبنان الخارجية وممارسة بعض قواه السياسية من تدخلات في شؤون دول أخرى من عجز كامل للدولة عن وقف ذلك، وبالتالي تلاشي سياسة النأي بالنفس إلا من حبر على ورق.

إن عجز الدولة اللبنانية أكثر ما يتبدى في مقاربة البنود الأكثر حساسية ودقة في الورقة الخليجية كالقرارين الدوليين 1559 مثلاً و 1701 المعنيين مباشرة بسلاح حزب الله، ومما لا شك فيه بأن مهلة الرد التي منحت للبنان تؤشر إلى مدى جدية المسار السلبي الذي ستسلكه العلاقات الدبلوماسية مع المحيط العربي في حال لم يتحقق ما يصبون إليه، وقد تصل إلى درجة تجميد عضوية لبنان في جامعة الدول العربية كما يُسرب من بعض الأوساط. هذا وقد كثر الكلام عن أن المبادرة الخليجية تشكل الفرصة الأخيرة للبنان لن يكون ما قبلها كما ما بعدها.

وترافقت هذه التطورات مع تعطيل مجلس الوزراء من قبل الثنائي الشيعي لمدة ثلاثة اشهر بحجة شوائب في عمل القضاء بقضية انفجار مرفأ بيروت، السبب الذي لم يقنع كثيرين بانه وراء التعطيل الذي حصل، مما دفع بعض المشككين الى ربطه بتطورات إقليمية سواء حرب اليمن او المفاوضات الاميركية الإيرانية بشان الملف النووي في فيينا ومدى استخدامه كورقة تسهيل او تعقيد في الملفين.

إن هذا التعطيل لعمل السلطة التنفيذية والقضائية وإنعكاسه على الأزمة الإجتماعية والإقتصادية، بالإضافة إلى رغبة رئيس الجمهورية ميشال عون وتياره السياسي لتعويم العهد في سنته الأخيرة كانا الدافع وراء دعوة الرئيس لحوار في بعبدا لم يبصر النور، وذلك لإعتبار البعض أن رئيس الجمهورية لا يمثل المرجعية الصالحة لهكذا حوار بفعل إنحيازه السياسي لتياره وحلفائه على مدى السنوات الخمس من عهده. كما أتى رفض البعض لدعوة الحوار تحت إعتباره أنه سيساهم بإستمرار تعطيل مجلس الوزراء كمؤسسة دستورية معنية بإنجاز القرارات التي من شأنها معالجة هموم الناس ولو بالحد الأدنى من جهة ومقاربة بنود الإصلاح وخطة التعافي من جهة ثانية، وهذا ما كان عليه موقف الحزب التقدمي الإشتراكي ورئيسه وليد جنبلاط إذ قال: "منعاً من أن يختلط الحابل بالنابل وأن ندخل في جدل بيزنطي حول السلاح ومزارع شبعا في الحوار، فإن أفضل طريقة لوقف التدهور هو إجتماع مجلس الوزراء وأن تكون الأولوية شؤون المواطن وتحصين الجيش والمؤسسات الأمنية والتفاوض مع المؤسسات الدولية".

وفي سياق الحديث عن الحوار، نستذكر الحوار الوطني الذي عقد في محطات مختلفة من تاريخ لبنان السياسي سواء خلال فترة الحرب وصولاً إلى اتفاق الطائف برعاية إقليمية ودولية، أو بعد الحرب وصولاً إلى اتفاق الدوحة في العام 2008، وكل ذلك في ظل فشل واضح في الإتفاق على صيغة بناء دولة حقيقية سيدة قرارها تكون وحدها من خلال مؤسساتها الدستورية وسلطاتها المختلفة وآلياتها الديمقراطية الناظم الوحيد للعملية السياسية برمتها، وإلا سنشهد التجارب نفسها تتكرر وسندفع الأثمان باهظة.

أما الشق الثاني من الهاجس المستجد يتمثل في خشية الوقوع بخلل التوازن الوطني وغياب الإعتدال بعد إعلان الرئيس الحريري منذ أيام خروجه من الحياة السياسية، حيث أن هذا الإنكفاء أثار زوبعة من التساؤلات حول المنحى الذي من الممكن أن تأخذه الحركة السياسية والانتخابية عموماً وبالنسبة للمكون السني خصوصاً. فهل تأتي هذه الخطوة في سياق إنسحاب عنصر الإعتدال قبل بدء المواجهة المحتملة التي لا تزال معالمها غير واضحة بالكامل؟ إلا أنه تبدو الإنتخابات النيابية إحدى حلبات المواجهة هذه في ظل توقعات لإحداث تغيير في المجلس النيابي المقبل من قبل مجموعات برزت عقب إنتفاضة 17/ تشرين 2019 .

إلا أن شعار التغيير هذا يبقى قاصراً عن تحقيق التغيير الجذري في حال لم يرتق لمستوى طرح شامل يطال بنية النظام السياسي الطائفي المولد للأزمات المتتالية، كما فعلت الحركة الوطنية اللبنانية بقيادة المعلم الشهيد كمال جنبلاط من خلال البرنامج المرحلي للإصلاح السياسي في سبعينيات القرن الماضي، والذي لايزال وحده يرسم مسار بناء الدولة وقيامة لبنان الحقيقية، ومع إدراك صعوبة تحقيق مثل هذا المشروع لكن يبقى لنا الحق في أن نحلم.

وإلى حين تحقيق هذا الحلم لا بد من مواجهة الاستحقاقات على انواعها، اولا، المقاربة الجدية والمسؤولة من قبل الدولة اللبنانية مع المبادرة الخليجية، على ان يكون في الأولوية تاكيد موقع وانتماء لبنان العربيين واعادة صياغة سياسة خارجية موحدة وواضحة في هذا الاتجاه. ثانيا، المبادرة العملية في الإصلاحات المطلوبة وتفعيل التفاوض مع المؤسسات الدولية للولوج في خطة التعافي الإقتصادي والمالي، ثالثا، الالتزام بالاستحقاقات الدستورية وعلى راسها الانتخابات النيابية الكفيلة بحفظ التوازنات الوطنية من خلال خيارات الناس في صندوق الاقتراع، ولاحقا انتخابات رئاسية من خلال الآليات الديمقراطية التي نص عليها الدستور، علنا في ذلك نلجم الانهيار المستمر ونؤسس لمرحلة من النهوض مستقبلا.