Advertise here

عن خلفيات التوتر الدولي حول الملف الأوكراني

26 كانون الثاني 2022 16:26:26

الأحداث التي تحصل في أوكرانيا لا تحمل مبررات كافية للتوتر الكبير الذي يدور حول الملف الشائك، فالمناورات الروسية حول الأراضي الأوكرانية كانت عادية وروتينية، ولم تحمل أي مؤشرات على نية روسية بغزو أوكرانيا. وقد أكد المسؤولون الروس مراراً أن لا نية لموسكو باحتلال أوكرانيا، وكل ما تريده منع أي اعتداء عن سكان شرق نهر دنيبر الأوكراني وغالبيهم من أصول روسية. وفي المقابل لا يبدو أن أوكرانيا بصدد إعداد هجوم جديد على الإقليم الشرقي في هذا الوقت بالذات، حيث ظروف الدولة الاقتصادية صعبة، وتركيبة الحكم لا تسمح بمثل هذه المغامرة، برغم أن موسكو ترى أن الذين يتحكمون بمفاصل الدولة في كييف ينتمون الى الجماعات ذاتها التي تبنَّت النظرية النازية في السابق، وأيدت ضمناً سياسة هتلر العنصرية قبل الحرب العالمية الثانية، وربما يكون هذا التوصيف قاسياً ولا ينطبق مع الوقائع القائمة.
 
فجأة وصل الملف الأوكراني الى واجهة الأحداث العالمية، واحتل المرتبة الأولى بين الملفات الخلافية للدول العظمى. وبينما تقول موسكو أن المعلومات الأميركية عن نوايا عسكرية روسية وحشود بالقرب من أوكرانيا؛ بمثابة الدعاية التحريضية الواهية عليها، تؤكد الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا على وجه التحديد، أن موسكو تحضر لغزو أوكرانيا ولتقويض النظام الديموقراطي فيها، ويلاقيهما الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بالقول إن موسكو تُعِد لإنقلاب داخلي على النظام القائم من خلال مجموعات موالية لها.
 
على أرض الواقع لا يوجد تغييرات كبيرة في المنطقة، وخلال الشهرين الماضيين لم يُسجَّل أي تحرك لافت في أوكرانيا وحولها، فلا الجانب الروسي أظهر استعدادات عسكرية كبيرة حول أوكرانيا، ولا الجانب الأطلسي خرق "المحضور الروسي" الذي يرفض إدخال صواريخ أو قوات عسكرية غربية الى أوكرانيا، والأمر اقتصر على مساعدات من الأسلحة التقليدية أرسلتها واشنطن وبعض حلفائها الى كييف، وهي لا تُهدد التوازنات القائمة في الوسط الأوروبي الحيوي.
 
من الواضح أن رفع منسوب التوتر حول الملف الأوكراني يخفي أهدافاً غير مُعلنة، وقد تكون أهم هذه الأهداف خلق "دفرسوار" استراتيجي يعوّق التعاون القائم بين روسيا والدول الأوروبية في مجال تجارة الغاز الطبيعي، لأن الصادرات الروسية الى أوروبا تتجاوز 60 في المئة من حاجات القارة لهذه المادة الحيوية، وهي تصل بأسعار مقبولة. فموسكو تستفيد من استقرار صادراتها الطبيعية وأوروبا تستفيد من أسعار الغاز العادية، وقد عمد الطرفان الأوروبي والروسي إلى إنشاء خطوط جرّ جديدة للغاز – خصوصاً خط السيل الجنوبي عبر تركيا وخط نورث ستريم – 1 ونورث ستريم- 2 عبر البلطيق في الشمال – لأن الخطوط التي تمر عبر أوكرانيا قديمة ومُتهالكة، والاعتماد عليها وحدها في نقل الغاز الى أوروبا يحمل مخاطر كبيرة جراء التحولات السياسية التي حصلت في أوكرانيا بعد انطلاق الثورة البرتقالية العام 2004 وكان أحد أهدافها تقويض النفوذ الروسي في البلاد.
 
والولايات المتحدة الأميركية أصبحت الأولى في العالم في إنتاج الغاز، وتريد توريد جزء من هذا الإنتاج إلى أوروبا لأسباب تجارية واستراتيجية، لكن كلفة الغاز الأميركي أكثر من الغاز الروسي لأنه غاز أحفوري يعتمد على تقنية تحتاج إلى استثمارات كبيرة، غير ما هو عليه الوضع مع الغاز الروسي الذي يستخرج من مخزونات جوفية.
 
وقد يكون أحد أهم الأهداف غير المُعلنة للتوتر أيضاً؛ حرف الأنظار عن السباق الأميركي – الصيني، وهو أكثر كلفة على الولايات المتحدة الأميركية، برغم أن التنسيق بين موسكو وبكين قائم، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيزور الصين قريباً للمشاركة في افتتاح الألعاب الأولمبية وسيجتمع مع الرئيس شي جينبينغ لمناقشة جدول أعمال سياسي.
 
والمنافسة الأميركية لروسيا أكثر جاذبية لدى حلفاء واشنطن، لأن الشعور بالتهديد الروسي لأوروبا لا يزال قائماً ولا يحتاج الى محفزات، برغم البرودة التي تتعاطى فيها بعض الدول الأوروبية الكبرى مع ملف التوتر الأوكراني الحالي، لأن فرنسا وألمانيا على وجه التحديد تحتاجان للغاز الروسي الرخيص، ولم تقتنعا بعد أن لدى روسيا نوايا هجومية. وقد عبّر قائد القوات البحرية الألمانية الجنرال آخيم شونباغ عن هذه الحقيقة بعفوية عندما قال في الهند "إن الرئيس بوتين لا يطلب سوى الاحترام، وهو ربما يستحقه"، وقد دفع هذا الإعلان شونباغ الى الاستقالة تجنباً للانتقادات التي ستطاوله جراء هذا الموقف.
 
ومن جملة الأهداف التي قد تكون وراء التوتير في الملف الأوكراني، توجيه رسالة حازمة للرئيس بوتين بعد سلسلة المناورات العسكرية التي حضرها شخصياً، وكانت لإجراء تجارب على أسلحة متطورة جديدة، ومنها صواريخ استراتيجية تعتمد على تكنولوجيا حديثة تتجاوز سرعتها سرعة الصوت. فيما توفير ظروف هادئة لروسيا قد يدفعها الى زيادة ترسانتها العسكرية، كما أن الاستقرار الاقتصادي لها يساهم في تعزيز نفوذها الإقليمي وعلى الساحة الدولية وهو ما لا يتناسب مع المصالح الأميركية، ولا يروق للإدارة الديموقراطية التي تحاول الاقتصاص من الإسترخاء الذي كان قائماً في علاقات روسيا مع الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب.