القمح "يتخاوى" مع البنّ أما الحمص فلا... أيّ قهوة نشرب؟

26 كانون الثاني 2022 07:34:00

أكثر ما يتوافق مع حالِنا اليوم ما قاله محمد البرادعي، الدبلوماسي المصري الحائز على جائزة نوبل للسلام، ذات يوم «أن الديموقراطية ليست قهوة سريعة الذوبان»... فها نحن اليوم، في لبنان الكسيح المتلاشي، المتفلت من ديموقراطيات الأرض، من دون قهوة تعبئ الرأس. ها نحن، نفقد، مع كل ما نفقد ونفتقد إليه في هذه الأيام، القهوة التي هي كالحبّ، كالهدوء، كالكتاب، كالتأمل، كالتغلغل في النفس وفي الذكريات. قهوتُنا ما عادت «قهوة» وما عاد بقدرةِ الكثيرين إرتشافها والشعور بالإنشراح. فهل تغيرت القهوة أم تغيرنا نحن؟

 

نجول بين أوقيات البن وأوزانه ونقرأ في الأسعار: 40 ألفاً، 45 ألفاً، 50 ألفاً وأكثر... كل شيء غلا ثمنه في بلادنا إلا الإنسان. فهل نضع يدنا على رأسنا أم ندير رأسنا لتلك لعادة أدمناها ونقول على القهوة السلام؟

خمسة أو ستة أسماء من «ماركات «البن تغزو المتاجر، نختار بينها، نختار بين أسماء إعتدنا عليها: نجار وبن أبي نصر والبن البرازيلي وبون برازيل ودانيال... ونرى في المحال بعض الأسماء لبن تركي بدأ يغزو... لكن، حين نبحث أكثر نجد عشرات الأسماء اللبنانية الأخرى «المناطقية» التي نعرفها ولا نعرفها: بن طافش وبن عدنان وبن معتوق أشهر من نار على علم لكنها ليست موجودة في المتاجر أما بن الثريا وبن أحمد نفاع وبن الذهبي والفضي والماسي والأمير والأمازون والأخضر وباسيلي (لا يمت الى جبران بصلة) وحبيب وداعوق ورحال ورويال ولاندرينا ونعمة ويونس واروم والمشرق والمنصور وأيوب وبريما وروستر ومهنا وكابتن وكابيتانيا... فلا نعرف عنها الكثير. فهل البن يختلف؟ هل تختلف القهوة باختلاف مصدرها؟ ولماذا نرى نفس الشركة بأسماء وأسماء؟ أليس في ذلك تضارب ومنافسة في قلب البيت الواحد، لدى نفس الشركة، حين يُصار الى إنتاج اسمين وثلاثة في مصنع واحد؟



تراجع الإستيراد

قديماً قيل «من يسكر لا يعدّ أقداح». وما كان ما عاد يصحّ اليوم. فلكل ركوة ألف حساب وحساب. «نُلقّم» ركوتنا على مهل ونحن نغوص في رتابة هذه الأيام وعللها وحساباتها التي اختلفت كثيراً في عامين. نعم، رفاهية اللبنانيين مع القهوة انتهت، والضيف بات ثقيلاً. استيراد البن انخفض في الآونة الأخيرة كثيراً ووصل في العام 2020 الى 19 طناً بعدما كان في العام 2019، 33 طناً. والأنكى من كل ذلك، أن مذاق البن اختلف. فهل هناك غش أيضا في البن الذي نرتشفه أم أننا لم نعد نعرف طعم أفواهنا بعد كل ما أصابنا؟

نعم، هناك أيضاً وأيضاً «غش» في صناعة أصناف كثيرة من القهوة. نتفاجأ؟ طبعاً لا، فنحن في بلاد نشرب فيها المياه العذبة بنكهة المجارير، ونتناول الخضار المروية أيضا بمياه الصرف الصحي، فهل سيؤثر فينا بعد بذر الكتان المطحون مع البن؟

مصانع البن الكبيرة تُفضّل «إغلاق الموضوع» فماذا عن الصغيرة والمتوسطة منها؟ هل تملك معلومات كافية ووافية عن الموضوع؟ غسان نفاع أحد أصحاب بن أحمد نفاع يفهم في البنّ وأصله وفصله ويقول «حبات البنّ أنواع، لكل واحدة مذاقها وسعرها، وهناك مطاحن تطحن البن الهندي الرخيص ومطاحن أخرى تستخدم البن البرازيلي باب أول».

كيف نعرف إذاً ماذا نشرب؟ بالنكهة؟ بالطعم واللون؟ يجزم نفاع بصعوبة ذلك.

 

 



بن مع نوى التمر

ما رأي صاحب بن الثريا محمد محي الدين إبن تعلبايا البقاعية؟ يجيب «إبن المصلحة وحده حين يرى البن مطحونا يعرف جودته ويضيف: من هو بلا ضمير لا «يكعى» عليه شيء. ويروي قصة حدثت معه: أتى شخص الى مطحنتي وقال لي إنه «دكتور» أعشاب ويريد تحميص بزر التمر. قلت له إنني لا أطحن سوى البن. وبعد فترة أتاني عامل سوري في معمل تحميص نقولات وأخبرني أن شخصاً طلب من صاحب المحمصة، حيث يعمل، تحميص 100 كيلوغرام من نَوى ( جمع نواة) التمر، ثم عاد وطلب تحميص مئة كيلوغرام ثانية، ثم مئة كيلوغرام ثالثة. والعامل السوري سأل عاملا آخر لدى ذاك الشخص، يأتي بالبضاعة، عن سبب تحميص تلك الكميات فقال إنهم يطحنونها مع البن. يستطرد محي الدين هنا بالقول: سمعنا أن ذلك يحصل أيضا في رومانيا مع فارق أنهم يكتبون هناك على أكياس البن أنها مخلوطة مع الحمص مثلا بنسبة 20 في المئة من أجل تخفيف نسبة الكافيين في البن. لكن هنا يفعلون ما يحلو لهم، حين يحلو لهم، من دون إذن ولا دستور».

مضى على امتهان محمد محي الدين في صناعة البن أكثر من 25 عاماً ويقول: «الشغل «عال العال» على الرغم من ارتفاع الأسعار، فاللبناني قد لا يأكل لكنه يبقى يشرب القهوة. يضيف: تأثر عملنا يوم كانت بعض أصناف البن مدعومة «قعدنا يومها بلا شغل» علماً ان أسعارنا كانت أقل حتى من البن المدعوم، لكن الناس تشتري بنسبة 80 الى 90 في المئة الإسم لا النوعية، فاللبناني لا يعرف غالبا طعم فمه».



البن أنواع وابن البقاع، غير ابن السهل، يعرف أن لون التربة يجعل المذاق يتغير «فالبن المستورد من تربة لونها أحمر له نكهة تختلف عن البن المستورد والمزروع في تربة سوداء أو بيضاء. لكل أرض، بحسب محمد محي الدين، نكهة. ويفترص بالتاجر أن يجلب نوعية واحدة، الى نفس المصنع، كي لا يتغير المذاق. لكن، هناك من يشتري من السوق الداخلي ولا يعرف نوعية الأرض المستوردة منها حبوب البن ما يجعل كل طبخة مختلفة، لكن ما يمكن أن يفعله صاحب المحمصة هو تعديل الطعم من خلال التحميص والخلط».

نعود الى بن أحمد نفاع للسؤال أكثر عن أنواع البن وكيفية شرائه محلياً؟ يجيب غسان نفاع «نحن نشتريه أخضر، نحمصه ونطحنه ونبيعه «فريش» على الطلب. وحين يوضع البن المطحون في البراد يبقى صالحا مدة أطول. ويستطرد: التحميص هو الذي يُحدد حموضة او مرارة البن. والبن أنواع وأسعار. هناك بن أخضر من فييتنام سعر الكيلو منه ثلاثة دولارات ونصف وهناك البن الكولومبي سعر الكيلو منه قد يصل الى خمسة دولارات. واللبناني يحب البن البرازيلي وهو الأغلى. سعر الكيلو الأخضر منه 5 دولارات. والبن الأخضر حين يُحمص يخف وزنه. الكيلوغرام الواحد يُصبح أقل بنسبة عشرين الى ثلاثين في المئة».

ما رأي «بن طافش»؟ وليد طافش، إبن المؤسس رمزي طافش؟ هو «يحمص كل يوم بيومه» ويقول «لا نشتغل في التوزيع على المتاجر لأن ما يحصل أن المصانع التي تطحن البن وتغلفه وترسله الى السوبرماركت تعود وتسترده، بطلب من أصحاب السوبرماركت أنفسهم، إذا مضى وقت لم يُستهلك فيه. وما يحصل أن بعض المصانع (لا جميعها) تقوم بتغيير تاريخ الصنع وبيعها مجدداً. وهو أمر لا يرتضيه وليد طافش على حدّ قوله.

هل عانى من الدعم على أصناف دون أصناف؟ يجيب طافش «لا، لأن الرز البسمتي لا يُدعم بل الرز المصري والبن «كلاس أ» لا ضرورة ليُدعم. من يتناول البن الطيب يعود ليتناوله نفسه بدعم أو من دون دعم. ويستطرد: نحن حتى ولو «زعبنا» الزبون يعود إلينا. نحن زبائننا VIP وسياسيون وزعماء».

قد يشعر البعض أن «مسيو طافش» مغرور لكن، ماذا عن أسعار البن التي لم تعد بمتناول كثير من اللبنانيين؟ يجيب «نحن خفضنا أخيرا أسعارنا. كنا نبيع الكيلو بالهيل بسعر 280 ألفاً فبات، بعد هبوط الدولار، 240 وبلا هيل كان 260 فأصبح 220. ويستطرد بالقول: كل شي غالي. سعر كيلوغرام الهيل أربعين دولاراً. وطريقة التحميص تحدد المذاق والمضاربة كثيرة لكن صعب أن يضارب الجميع بالنوعية».

 



هنا، يتحدث عن «غش» يحصل في البن «سمعتُ عن من يضع قمح في البن، لأنه وحده «يخاوي» البن عند طحنه. وهناك، لمن لا يعرف، 16 مليون نوع من البن».

يتحدث «صنّاع» البن عن ارتفاع أسعاره عالمياً لا في لبنان وحده. محمد محيي الدين يقول «نحن نشتري البن بالشوالات، والبن البرازيلي هو الأطيب سواء أكان من النوعية أ أو ب أو س. ومن يحب البن المرّ أنصحه بالحبة الكولومبية وهناك البن العدني أيضا والأندونيسي والهندي والفنزويلي. ويمكن تمييز الحبة البرازيلية من شكلها فهي تكون «مبلطحة» أكثر من سواها. وهناك أربعة أو خمسة تجار يستوردون والبقية يشترون منهم. يضيف: طن البن الذي كنت أشتريه قبل عام بسعر 1700 دولار أصبح اليوم 4900 دولار لأن إنتاج البن تقلص كثيراً عالمياً بعدما ضرب الجفاف حقول البن في البرازيل وتدنى الإنتاج هناك من 52 مليون شوال الى 35 مليوناً. لهذا زاد الطلب وحين يزيد الطلب ويتراجع العرض ترتفع الأسعار».

معلومات كثيرة قد تُعجب محبي القهوة وقد تستفزهم «فالأسعار الى ارتفاع» على ما يبدو بعد وبعد. في كل حال، «اللبنانيون، بحسب محي الدين، حين يسمعون أن سعر البن سيرتفع يهرعون للشراء وهذه ظاهرة» يضيف: «اللبنانيون أبناء البقاع الأوسط يحبون القهوة الشقراء الخفيفة، أما أولاد بعلبك فيحبون أكثر القهوة السوداء المرّة وهذا ما يفضله أيضا البيارتة. وهنا يلفت الى أن اللبنانيين، بغالبيتهم، باتوا يفضلون شراء البن الشديد التحميص، والشديد السواد، لأنهم يضعون منه في الركوة ملاعق أقل من سواه. إنها وسيلة إقتصادية أدركها البعض وقد يستفيد منها من لم يدركها حتى الآن. أمر آخر يسأل عنه «ذوّاقة القهوة»: لماذا هناك مصانع بنّ كبيرة تبيع «ماركات متعددة»؟ من «بيت أبيهم» الجواب: «تكون هناك شحنة بن «باب رابع أو خامس فيأتون بها وكي لا «يسيئوا» الى سمعة النوع الذي يشتهرون به ويروجون إعلانياً له ويبيعونه باسمٍ آخر.

أخيراً، من اشترى أيام الدعم «باكيتات» بن ليوفّر بها في هذه الأيام العجاف عليه أن ينتبه «فالبن له صلاحية» حتى ولو كان «فاكيوم» أما البن الأخضر فيبقى بدون طحن بين ثلاث الى اربع سنوات أما إذا حُمّص وطُحن فكل يوم يتغيّر طعمه قليلا. ويبقى لكم الخيار على أمل ألا يكون فنجان قهوتكم ملغوماً بحمص أو بقمح أو بـ «عجوات» التمر.