Advertise here

انفجار كازاخستان وتردّداته على مقياس موسكو وبكين

24 كانون الثاني 2022 15:38:07

مهما اختلفت المقاربات والتحليلات والقراءات حول الأزمة المشتعلة في كازاخستان،  فإنّ أحداً لا يمكنه فصل تلك الأحداث عن الانسحاب الأميركي من أفغانستان، والتوقعات التي نشرتها مراكز الأبحاث على أنّ هذا الانسحاب سوف يؤدي إلى اضطرابٍ شامل في مختلف مناطق المجال الجيو - سياسي في النطاق الحيوي لروسيا. وليست كازاخستان الدولة الوحيدة التي شهدت هذا الانفجار الأمني والفوضى السياسية والشعبية، حيث سبقتها أحداثٌ مماثلة في كل من طاجاكستان وقيرغيزستان وأذربيجان وأرمينيا، عطفاً على ما جرى في منطقة القوس الأوراسي، وصولاً إلى أوكرانيا والتي شهدت، ومازالت، العديد من الاضطرابات.

تقع كازاخستان في آسيا الوسطى، وتشترك في حدودها مع الصين وأوزبكستان وتركمانستان وقيرغيزستان، وتطل على بحر قزوين من خلال شواطئها، وهي واحدة من البلدان المتواجدة بين قارتين (آسيا وأوروبا)، وتُعرف مع الدول المجاورة لها الواقعة جنوب روسيا بالسهم التركي، حيث تعتبرها أنقرة على أنّها جزء من مجالها الجغرافي والسياسي والاقتصادي، وتعتبرها الصين ممراً إلزامياً لخارطة الحزام والطريق (طريق الحرير سابقاً)، وهي بالنسبة إلى روسيا حائطَ الصد الدفاعي الأمني والاستراتيجي عن موسكو بوجه طموحات النفوذ التوسّعي الغربي (الأميركي - البريطاني).

الصراع حول الحدود الجنوبية للامبراطورية الروسية، بدأ في منتصف القرن الثامن عشر مع الامبراطورية البريطانية، التي اعتمدت استراتيجية منع تمدّد الامبراطورية الروسية إلى المياه الدافئة إلى الهند، وباكستان، والصين، وأفغانستان حتى إيران. وبهذا المعنى لا يمكن اعتبار الأزمة الكازاخستانية  على أنّها صراع دولي جديد، إنّما هي استدامة لصراعٍ تاريخي متجدد ذي أشكالٍ متعددة، وفق ظروف الحقبة التاريخية التي مرّ بها، سواءً قبل الحرب العالمية الأولى، أو بين الحربَين، أو بعد الحرب العالمية الثانية وصعود الاتحاد السوفياتي، إلى الحرب الباردة إلى الآن. فالربط التاريخي للصراع الاستراتيجي ما بين الامبراطوريات الاستعمارية، وأشكال استمرارها، يساهم في فهم مجرى الأحداث الجارية في وسط آسيا، وتوضيح عناصر التنافس بين القوى العالمية الصينية، والأميركية، والروسية من جهة، والقوى الإقليمية، مثل إيران وتركيا، والهند، وباكستان، من جهة أخرى، ما يعني أنّنا لسنا أمام انفجار صراع جديد، بل أمام استمرارية حركة صراع لم تتوقّف بين القوى الكبرى في العالم حول نفوذها، واستمرار لصراعٍ إقليمي خفي بين القوى الإقليمية من موقع امتداد لنفوذ ومصالح الدول الكبرى. وبالتالي فإنه سواء تدخّل أعداء روسيا بقوتهم العسكرية لتصعيد تلك الاحداث اليوم، أو تمكّنت روسيا مع حلفائها في مجموعة الأمن الاجتماعي من لجمها، فإنّ الصراع في كازاخستان والدول المجاورة دخل مرحلة جديدة، وإنّ الاستقرار الأمني في منطقة السهم التركي جنوب روسيا لن يعود إلى سابق عهده في الوقت الحالي.

الأبعاد الخطيرة لأحداث كازاخستان، باعتبارها درة التاج لدول آسيا الوسطى، إذ هي الدولة الأكبر والأقوى والأكثر غنى وتطوراً وأهمية من الناحية الاقتصادية والسياسية والأمنية، ما يجعل من الاضطرابات فيها قابلة للانتقال بسهولة إلى مناطق أخرى مجاورة لها. لذلك يعتبر العديد من الباحثين أنّ ما يجري في كازاخستان هو مقدمة لتصاعد الأحداث في وسط آسيا، وهذا ما دفع روسيا إلى التحرّك العسكري السريع والحازم، واستخدام القوة لضبط الأوضاع، وحماية المنشآت الحيوية والاستراتيجية، بما فيها المنشأة الفضائية (محطة بايكونور الفضائية) لإطلاق الصواريخ إلى الفضاء الخارجي، حيث وجدت روسيا نفسها أمام تحدٍ كبير واستراتيجي مفاجئ.


 
ويرى بعض الباحثين أنّه لا يمكن عزل أحداث كازاخستان عما جرى ويجري في سوريا، كما لا يمكن عزله عن الأهداف الأميركية، ولا عن استراتيجية التحالف الآنجلو- سكسوني الجديد (الولايات المتحدة الأميركية – بريطانيا – استراليا)، وإعادة بناء الجدار الأمني السياسي العسكري المرهق لروسيا وسياستها، واقتصادها، وقدرتها المؤثّرة على المسرح العالمي. فالاضطرابات في كازاخستان بما تمثّل، تؤشّر إلى أنّ أبواب الصراع بين موسكو وواشنطن فُتحت على مصراعيها، ولم تعد التوافقات التي شهدتها العقود الثلاثة الماضية بين القطبين حول وسط آسيا الوسطى سيدة الموقف، والتي كان يفاخر بها الرئيس الكازاخي السابق، نزار باييف، بأنّه "أنشأ توازناً بين جيرانه في الدول العظمى الكبرى الثلاث: روسيا والصين والولايات المتحدة الأميركية". 

هذا التوافق لم يعد موجوداً، فالمعركة السياسية العسكرية الأمنية الجارية قد تتطور، وقد يتم ضبطها. لكن جملة أسئلة تطرح نفسها هنا: هل الحلف الثلاثي الآنجلو- سكسوني الجديد مع ضبط هذه المعركة؟ وهل هو مع إعادة بناء التوافق مع روسيا؟ أم أنه يريد تغذية هذا الصراع بهدف الوصول إلى مزيدٍ من الاستهداف لمحاولة إضعاف روسيا من جهة، وإرباك الصين من جهة ثانية؟ ويقال إنّ واشنطن ولندن وسيدني، لن تسمح لبكين، ولا لموسكو، برسم خارطة آسيا بمعزلٍ عن ما يريده البيت الأبيض رغم انسحابه عسكرياً من كابول، ورغم الحديث عن انسحاب، أو إعادة تموضع للجيش الأميركي في الشرق الأوسط.

القضية الكازاخستانية فجّرت المحور الأكثر امتداداً على الحدود الجنوبية لروسيا في لحظة حرجة تواجه فيها موسكو صراعاً حاداً وتصعيداً عسكرياً غير مسبوق مع أوكرانيا، وعدم قدرة على تحقيق أي تفاهمات، أو اختراقات، في الحوار مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) حول أوكرانيا، فالقضية أصبحت بين حدّين: الحد الشمالي - الغربي مع أوروبا وأميركا حول أوكرانيا، والحد الجنوبي الممتد من أذربيجان حتى حدود الصين.
 
قبل عشر سنوات، ومع بداية الأزمة السورية، أطلقت بعض مراكز الأبحاث الغربية تقديراً سياسياً يقول، "إن ما يجري في سوريا اليوم من تدخلٍ روسي هو بمثابة تجربة مسبقة لما سيجري في دول آسيا الوسطى حتى الصين لاحقاً". هذا التقدير، الذي اعتبره البعض خيالياً في ذلك الوقت، يبدو أكثر واقعية وترابطاً اليوم. فإذا أعدنا النظر في مجريات الأحداث في الشرق الأوسط على امتداد السنوات العشرين الماضية، انطلاقاً من الرد الأميركي على حادثة تفجير برجَي التجارة العالمي في 11 أيلول 2001، يتّضح لنا وجود رابط واحد بين الهجوم على أفغانستان، ولاحقاً احتلال العراق، ومن ثمّ الأحداث في سوريا وطريقة إدارة الأزمة السورية، وما يجري مع الإيغور في إقليم شينجيانغ في الصين، والذين تعود جذورهم إلى بلاد تركمانستان. وما جرى مع جماعة (الروهينغا) في بورما  (ميانمار)، يبيّن أننا أمام إعادة تركيب للجغرافيا السياسية، وإعادة صياغة استباقية لموازين القوى، وللمعادلات الإقليمية والدولية المبنيّة على ما تقوله واشنطن وتردّده لندن وسيدني اليوم، "إنّ التحدي الراهن هو تحدٍ كوني، اقتصادي، ومعرفي، وعسكري، مع الصين كقوة منافسة أساسية، والتي  بدأت تخرج من نطاق حدودها الجغرافية إلى العالم"، ومع "التنافس العسكري والنووي الروسي". وبالتالي نحن أمام بؤرة صراع متجددة انفجرت في كازاخستان، وتؤسّس لتغيير شامل على مستوى توازنات القوى السياسية وحدودها الجغرافية على مساحة آسيا، بما فيها منطقة الشرق الأوسط.