ليس هناك ما هو أكثر إحباطا من أن يشعر اللبنانيّ بأنه ممزق الهوية، موزع الانتماء متنوع الولاء، وأنه مكسور الخاطر متروك القدر في زمن تتراكم عليه الصعاب والويلات، وتتكاثر فيه الملمّات، ويشعر بالوحدة القاتلة وهو ذاته متعدد الجنسيات.
والأكثر جهنميّة أن تكون الغربة في بلده، حاضرةً داخله، ومستوطنة في تفكيره ومقيمة في اعتقاده.
اللبناني الذي شغل العالم بحروبه وصراعاته وإبداعاته وفرادة أساليب حكمه وفنونه يجد نفسه متروكا وحيدا على قارعة عدم الاهتمام واللامبالاة، هذا الصغير المدلل الذي ظنّ أنه لن يهرم أو يكبر، غدا مشردًا وتائها في زحمة خيبات الحوادث المتسارعة والمتلاحقة.
لم يعد "الأمل كبيرا ولكن الخيبة كبيرة" لدى اللبنانيين الذين خذلتهم طموحاتهم بالبقاء والتمسّك بأهداب بلدهم على عكس أقرانهم الذين شمعوا أبوابهم بخيطان الرحيل. قد لا يبدو الأمر محل استغراب على بلد يفوق عدد مغتربيه، أضعافا، عدد مقيميه، ولا مبعث للاستغراب أيضا أن يكون الخلاف والاختلاف سمتين متلازمتين في مقاربة أبسط الأمور من الجدل المستديم حول جنس الملائكة إلى السؤال المقيم من أين الطريق؟
نعم لقد ابتلينا نحن اللبنانيين بأننا "نظن ان الله لم يهد سوانا"، على إشكالية ابن سينا، ولكن الذي صح فينا، هو قول الإمام الأوزاعي: "إذا أراد الله بقوم شرًّا ألزمهم الجدل ومنعهم العمل".
إن السوداوية التى تخيم على أقدار اللبنانيين والريبة تزداد اتساعا وكثافة مع الانفلاش السياسيّ والانفلات على المعهود والموروث إزاء العقم الذي ينجم عن أحزابٍ سياسيةٍ بعضها طاعن في السن أو غارق في الطائفية أو منتج للعصبية تراودها عن ذاتها منظمات ما يعرف بالمجتمع المدني، وكأن المجتمع اللبناني عسكريّ المقام أو أمني النشأة أو غير مدني بالأصل، وهي منظمات تحوز أهليتها بمعظمها، إذا احسنّا النية على اعتراف "دولي" كما شرعيتها عبر الممثليات الأجنبية العاملة على الأرض اللبنانية التى تتفلت في أغلب الأحيان من الضوابط الديبلوماسية.
إن مقدمة الدستور اللبناني تعتبر الأكثر تأنقا وديباجة والأكثر دقة في صياغة مفرداتها التى جاءت نتيجة توافقية تراعي الجميع ولا تفسد في الود قضية، وذلك تحت ضغط إيقاف الحرب الأهلية حينها، ولملمة أحوال اللبنانيين الذين فقدوا خلالها جيلين من أعمارهم أو أكثر، فلم يتنسَ لهذه المقدمة أن تؤسس لمسار تاسيسي أو بداية مرحلة جديدة، ولم تعْدُ كونها إلا وصفة ترسم نهاية لمرحلة متخمة بحروب اللبنانيين على أرضهم وحروب الآخرين ، وإلا، لماذا هذه الحذاقة في صياغة بالغة الشمولية بيّنة التناقض، فالفقرة (ج) من مقدمة الدستور التى أكدت أن لبنان جمهورية تقوم على "العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل"، تخفف من غلوائها الفقرتان (ح) و(ي)؛ الأولى اعتبرت أن إلغاء الطائفية السياسية "هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية"، والمرحلية على القياس اللبناني لا تحسب بسنوات أو عقود فحسب، والأخرى أن "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك". والميثاق المشترك بحاجة إلى أكثر من اتفاقية لتفسير مكنونات هذا العيش وماهياته التى يتحجج فيها الواحد منا على الآخر وغالبا على الجميع بلا أدنى مواربة.
بموازاة ذلك فان الفقرتين (أ) و(ب) الواردتين في مقدمة الدستور وتمهيدها تنمّان عن الحرص على التوازن داخليا بين الوطن النهائي الحر والسيد والمستقل لجميع ابنائه، وخارجيا بين لبنان عربي الهوية والانتماء المؤسس والعامل في جامعة الدول العربية وفي منظمة الأمم المتحدة والملتزم مواثيقهما، وهذا فيض من إشكالية الخلاف شديد الفاعلية والحساسية حتى طغى على يوميّاتنا بأدق تفاصيلها المملة، وكأن قدر اللبناني أن يكون واسع الولاء الخارجي، ضيّق الانتماء الداخلي، يحيا قلقا على قلق ويتلمس مستقبلا حائرا غائرا على شاكلة الاستعطاء والاستعطاف مما هو أسوأ أو أكثر ظلامية فيلوذ بخيبته إلى ماضيه لعله يرى بصيص غد أفضل، مستجيرًا من الرمضاء بالنار.
نحن شعب "لَم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا"، لأظن أن محمود درويش قصدنا وحدنا دون سوانا او يكاد..