شكّل العام 2021 العنوان الأبرز لأسوأ أزمة عرفها لبنان إقتصادياً ومعيشياً، عام لن ينساه اللبنانيون بعدما شهدوا إنهياراً إقتصادياً سيتواصل على ما يبدو مع دخولنا العام الجديد. حيث يعاني لبنان اليوم أكبر أزمة إقتصاديّة في تاريخه، وصفها البنك الدولي على أنّها "الأكثر حدّةً وقساوةً في العالم"، وصنّفها ضمن أصعب ثلاث أزمات سُجّلت في التّاريخ منذ أواسط القرن التّاسع عشر.
إنعكست هذه الأزمة على نمط الحياة اليومي للّبنانيّين بالكامل، إذ بات الشّعب يعمل من أجل تأمين لقمة عيشه فقط، متخلّياً عن الحاجات الثّانويّة وفي بعض الأحيان، عن الحاجات الأساسية والضرورية أيضاً، وذلك نظراً لهشاشة الإقتصاد اللبناني، الذي يقوم بالأساس على قطاع الخدمات والسياحة وتدفق الودائع والرأسمال الخارجي ويغلب عليه النمط الإستهلاكي.
فبالتزامن مع إستمرار هبوط قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، ومع بلوغ التضخم مستويات قياسية، وفقدان الأسواق للسلع الأساسية. وبما أن الفراغ الحكومي خيّم على ثلاثة أرباع مدة هذا العام، غابت الحلول وتعمقت الأزمة، وإصطف اللبنانيون في طوابير إنتظار أمام محطات الوقود والمصارف والأفران، وغرق السكان بالعتمة، وباتت أسعار السلع أشبه بالكابوس، وفقدت الرواتب أكثر من نصف قيمتها بحيث بات الحد الأدنى للأجور يعادل سعر صفيحتي وقود.
- الدين العام:
أضحى الإقتصاد اللبناني على حافة الإنهيار بسبب أزمة الميديونية التي زادت الأزمة السياسية وجائحة كورونا من حدتها.
يقع لبنان اليوم تحت عبء الدين العام الذي أصبح حجمه يشكل أكثر من 150% من الناتج الإجمالي، ليكون بذلك من أعلى معدلات المديوينة في العالم.
وبلغ إجمالي الدين العام في لبنان حوالي 98.73 مليار دولار حتى نهاية آب 2021، ما يشكّل إرتفاعاً بنسبة 3.3% من 95.6 مليار دولار في نهاية عام 2020، بناءً على سعر الصرف الرسمي لليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي. ونما إجمالي الدين العام بقيمة 3.14 مليارات دولار في الأشهر الثمانية الأولى من عام 2021 مقارنة بارتفاع بقيمة 2.64 مليار دولار في الفترة عينها من عام 2020.
- أزمة المحروقات:
منذ مطلع العام المنصرم وحتى منتصف تشرين الأول، قفزت أسعار البنزين في لبنان 1077%، وأسعار المازوت بنسبة 1563%.
والسبب الأساسي لهذا الإرتفاع الكبير في أسعار المحروقات، إضافة إلى إرتفاع أسعار النفط عالمياً، هو تخلّي مصرف لبنان عن تأمين الدولارات لإستيراد المازوت.
وبهذا المعنى تم رفع الدعم كلياً عن المازوت، بينما ما زال مصرف لبنان يموّل إستيراد البنزين بنسبة 15%.
في هذا الوقت كان سعر صرف الدولار في السوق الموازية يقفز وهو ما كان يؤدي إلى ارتفاع أسعار المحروقات أيضاً، حتى بلغ سعر صفيحة البنزين أواخر شهر كانون الأول 2021، 347800 ليرة، وبلغ سعر تعبئة قارورة الغاز 298600 ليرة، وسعر صفيحة المازوت 336200 ليرة.
- الكهرباء.. العام الأكثر ظلمة
يعاني لبنان من أزمة مزمنة في قطاع الكهرباء، بحيث تكبّد خسائر تتراوح نسبتها التقديرية بين 36 و40% على هذا القطاع. وعلى الرغم من كل تلك الخسائر، فإن نقص التغذية الكهربائية إستمرّ لحوالي ثلاثة عقود ما إضطرّ المواطنون إلى إستخدام المولدّات الخاصة بكلفة مرتفعة جداً.
ويعتمد لبنان لتوليد الطاقة الكهربائية على محطات حرارية بكفاءة متدنية تستخدم النفط الثقيل والديزل المستوردَين والمكلفَين والملوِّثَين، ومع الإنهيار الإقتصادي توقف مصرف لبنان عن دعم الوقود الذي تحتاجه كهرباء لبنان، ما أدى لتراجع خدمات الكهرباء، ففي العام المنصرم أعلنت "كهرباء لبنان" عدة مرات عن إنهيار التغذية الكهربائية في البلاد بسبب تراجع الإنتاج الى مستويات متدنية غير مسبوقة نتيجة عدم توافر الوقود المخصص لتشغيل معامل الطاقة.
ومع غلاء المحروقات وإنقطاعها لمدة طويلة في السوق أصبح كثير من اللبنانيين من دون كهرباء.
وكان حجم إنتاج الطاقة في لبنان يبلغ بين 1600 و2000 ميغاواط قبيل الأزمة، إلا أنه تراجع الى ما بين 300 و500 ميغاواط، ما إنعكس إنقطاعاً للكهرباء عن معظم المنازل والمؤسسات لأكثر من 20 ساعة في اليوم.
- المستشفيات وفقدان الأدوية
أزمة الكهرباء وغلاء المحروقات تبعها أزمات أخرى أهمها أزمة القطاع الطبي حتى حذرت كبرى المستشفيات بالتوقف عن العمل، ووصل الحد إلى إعلان مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت أنه إذا لم يتم تزويدها بالمحروقات لتشغيل المولدات الخاصة بالمستشفى فإن 145 مريضاً لديها سيموتون بعد بضع ساعات.
وكان لرفع الدعم تأثيرا سلبيا نظرا لعدم تزامنه مع اقرار البطاقة التمويلية، وقد تم رفع الدعم جزئياً عن الأدوية المزمنة بحيث كان المصرف المركزي يوفر دعماً مالياً قدره 100 مليون دولار شهرياً لإستيراد الأدوية من الخارج، إلا أن هذا الدعم بدأ يتقلص تدريجياً منذ تموز، ما إنعكس إرتفاعاً كبيراً بأسعار الأدوية بنحو 12 ضعفاً، الأمر الذي تَسبَّب بموجة غضب شعبية واسعة نتيجة تخطّي أسعار الأدوية القدرة الشرائية لدى المواطنين. وكما المحروقات كذلك الأدوية، أدت الأزمة المالية إلى فقدان 70 بالمئة من الأدوية في لبنان، نظراً إلى عدم وفرة النقد الأجنبي المخصص لإستيراد الكميات الكافية.
فضلاً عن ذلك، عمد بعض التجار الى إخفاء الأدوية في مستودعات بغية إحتكارها وبيعها لاحقاً في أسعار مرتفعة.
- طوابير الذل:
عدم وفرة النقد بالعملة الصعبة، أدى إلى تراجع إستيراد المحروقات وشحها في الأسواق اللبنانية، وأصبح إصطفاف المواطنين أمام محطات الوقود للحصول على البنزين والغاز، جزءاً من حياة المواطنين اليومية.
شكل هذا المشهد الإنعكاس الأبرز للأزمة المالية عام 2021، وأطلق عليه اللبنانيون مصطلح "طوابير الذل" الذي رافق اللبنانيين في كل تفاصيل حياتهم، حيث تسبب التزاحم بمواجهات وأعمال عنف بين المواطنين ما أدى أحياناً إلى سقوط قتلى وجرحى.
مشهد الطوابير لم يكن فقط أمام محطات الوقود، بل إصطف اللبنانيون بطوابير أمام الأفران كما وأمام الإدارات العامة ودوائر النفوس وأخيراً دخلت المصارف الى صف الطوابير بعد إعلان مصرف لبنان عن إمكانية سحب المواطنين الذين لديهم حسابات مصرفية بالليرة اللبنانية لتلقي رواتبهم بالدولار الأميركي على سعر منصة صيرفة وفقاً لتعميم حاكم مصرف لبنان 161 الصادر في 16 كانون الأوّل.
- هبوط الليرة اللبنانية:
منذ مطلع العام 2021 واصلت الليرة اللبنانية هبوطها مقابل الدولار الأميركي، ففي بداية العام بلغ سعر الصرف في السوق السوداء نحو 8 آلاف ليرة، واستمر هبوطها الى أن بلغ في نيسان نحو 13 ألف ليرة.
على إثر ذلك، إتخذ المصرف المركزي أولى خطواته من خلال إنشاء منصة إلكترونية (SAYRAFA) في أيار تهدف الى بيع الدولار للمصارف والصرافين بسعر 12 ألف ليرة، ويستفيد منها التجار والمستوردين.
سعر صرف الدولار وفق تلك المنصة كان متحركاً يومياً بحسب حجم التداول اليومي الذي تراوح ما بين 15 و20 مليون دولار يومياً، وقد وصل سعر صرف الدولار الواحد على تلك المنصة نحو 22 ألف ليرة مؤخراً.
محاولات البنك المركزي للجم تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية لم تضع حداً لإستمرار هبوطها في السوق الموازية، حيث وصل سعر صرف الدولار الواحد في تلك السوق مؤخراً نحو 28 ألف ليرة.
وكانت قيمة اللّيرة اللّبنانيّة مقابل الدّولار مستقرّة طوال أكثر من ربع قرن عند حدود 1510، إلّا أنّها اهتزّت للمرّة الأولى في كانون الأوّل 2019، وبدأت تتدهور تدريجيًّا حتّى لامست الـ 29 ألف ليرة للدولار الواحد في كانون الأوّل الجاري.
- التضخم:
شكل 2021 العام الأسوأ لناحية الغلاء وإنهيار القدرة الشرائية للبنانيين، فبحسب البنك الدولي، بلغت نسبة التضخم في لبنان هذا العام 130 بالمئة، بينما في 2020 كانت نسبته تبلغ 84 بالمئة.
أما بالنسبة إلى النمو فمن المتوقع أن ينخفض 10 بالمئة إضافية عام 2021، بعدما سجل في عام 2020 انخفاضاً بنسبة 21.5 بالمئة.
أما الناتج المحلي الذي كان يبلغ 55 مليار دولار عام 2018، انخفض عام 2020 إلى 33 مليار دولار، ومتوقع في عام 2021 أن ينخفض الناتج المحلي الى 20 مليار دولار.
وأعدت إدارة الإحصاء المركزي سلسلة تحليلية لتوضيح تأثير أزمة السنوات الأربع الماضية على الأسعار جاء فيها أن نسبة التضخم الإجمالي للأغذية والمشروبات غير الكحولية بلغت من كانون الأول 2020 الى تشرين الثاني 2021، 348 %، أما بالنسبة الى إجمالي التضخم للملابس والأحذية فقد بلغ 190%، بينما بلغ إجمالي التضخم للصحة 374%.
- الفقر:
صحيح أنّه كان من المتوقّع أن ترتفع نسبة الفقر في لبنان خلال هذا العام، بفعل الأزمة الإقتصاديّة، لكنّ النّسبة في الواقع كانت ضخمة جدًّا، فارتفعت أرقام الفقر في لبنان 19% عن العام الماض، ففي شهر حزيران صنف البنك الدولي الأزمة الإقتصادية والمالية في لبنان المستمرة منذ أواخر العام 2019، واحدة من بين أشد 3 أزمات شهدها العالم منذ منتصف القرن 19.
بدورها، أعلنت لجنة الأمم المتحدة الإقتصادية والإجتماعية لغرب آسيا "إسكوا" أن معدل الفقر في لبنان إرتفع من 42 % في العام 2019 إلى 82 % من إجمالي السكان في العام 2021 مع وجود ما يقرب من 4 ملايين شخص يعيشون في فقر متعدد الأبعاد.
تواصل معدلات الفقر إرتفاعها، وتذهب التقديرات إلى أن نسبة السكان اللبنانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر الدولي البالغ 5.50 دولارات للفرد يومياً قد ارتفعت بمقدار 13 نقطة مئوية بنهاية عام 2020، ومن المتوقع أن تسجل مزيداً من الصعود قد يصل إلى 28 نقطة مئوية بنهاية عام 2021.
وما سرّع هذا الأمر، هو فقدان العملة الوطنيّة قيمتها مقابل الدّولار الأميركي، ففقدت بالتالي رواتب اللّبنانيّين قيمتها وإنخفضت قدرتهم الشّرائيّة.
- تآكل رواتب الموظفين
على وقع مستويات التضخم العالية، وإرتفاع أسعار الوقود والسلع الغذائية، تراجعت القدرة الشرائية للمواطنين إثر انهيار قيمة رواتبهم تأثراً بتراجع قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار. وفقدت الرواتب 97% من قيمتها.
- جرائم السّرقة إلى إرتفاع:
من المنطقي أن ينعكس عدم الإستقرار الإجتماعي على الوضع الأمني في البلاد، وهذا ما بدا واضحاً في دراسة نشرتها مؤسّسة "الدّوليّة للمعلومات"، فقد إرتفع معدّل جرائم السّرقة في العام 2021، بنسبة 137 بالمئة عن العام 2020.
- الهجرة:
المشهد نفسه بالنّسبة إلى الهجرة، فقد إرتفعت أعداد المهاجرين والمسافرين اللّبنانيّين بحثاً عن فرصة عمل، أو عن خدمات حياتيّة معدومة في لبنان، كالكهرباء والمياه والصحة.
- المباحثات مع صندوق النقد الدولي:
في أيلول وبعد أيام قليلة على تشكيل حكومة نجيب ميقاتي عقب 13 شهراً من الفراغ الحكومي، أعلن ميقاتي أن حكومته باشرت بإعداد خطة التعافي المالي والإقتصادي آملاً بإنجاز برنامج تعاون مع صندوق النقد.
وفي 19 كانون الأول أعلن نائب رئيس مجلس الوزراء سعادة الشامي أن اللجنة الوزارية المكلفة بالتفاوض مع صندوق النقد الدولي، اتفقت مع حاكم مصرف لبنان على أن حجم الخسائر المالية في لبنان بلغ 69 مليار دولار.
وتوقع الشامي الوصول الى إتفاق مبدئي مع الصندوق بين شهري كانون الثاني وشباط المقبلين حول خطة للنهوض الإقتصادي تتضمن إعادة هيكلة القطاع المصرفي وسياسة الموازنة العامة.
الواقع الذي نعيشه اليوم والأزمات التي نرزح تحت كاهلها ليست وليدة اللحظة، بل هي سلسلة من السياسات الفاشلة التي لم تعالج يوماً بل زادت الأمور سوءاً وهدراً وفساداً. يبقى السؤال هل سيكون العام الجديد أفضل وسيتم إنتشال لبنان من الدرك الذي وصل إليه وتجنيبه الوصول الى مرتبة الدول الفاشلة؟