المراقب للتطور الذي تمرّ فيه المملكة العربية السعودية، يدرك أنّ ثمة قفزة كبرى حصلت على المستوى المجتمعي والسياسي والاقتصادي، وعلى المستويَين الأمني والعسكري، وأنّ قيادة المملكة التي انتهجت سياسة تحديثية راكمت الخبرات والتجارب المختلفة، أنتجت تموضعاً جديداً لموقع ومكانة المملكة، تعتمد على حفظ المصلحة السعودية أولاً، كدولةٍ وازنة ومكتملة العناصر الاقتصادية والدبلوماسية.
وفي ضوء ما حصل لم يعد يستطِع احد القفز فوق التطورات التي حصلت خلال السنوات الست الماضية في العربية السعودية على الصُعُد كافة، فقدرة التأثير السعودي بثقلٍ كبير في مختلف الملفات عالية جداً، كما هو الحال في ملف الطاقة، والوضع الإقليمي، والتصدي لإيران ومشروعها في سباق التسلح.
لقد مرّت المملكة العربية السعودية كما المنطقة والعالم بتطورات كبيرة، ومع ذلك احتفظت الرياض بقوتها ككتلة رئيسية لها وزنها ودورها في السياسية وفي الإقليم، ومكانةً في تحقيق مصلحة مستقلة في هذه الصراعات المحتدمة.
فالسياسة العميقة للدولة السعودية، أنتجت درجة من التوازن بين الخلافات البينية وبين المشتركات العربية، وهذا ما شهدناه في قمة العلا العام الفائت التي تجاوزت الانقسام الحاد، وأعادت مسار العلاقات الأخوية إلى موقعها الصحيح، وما خرجت به قمة دول مجلس التعاون الخليجي التي عُقدت في قصر الدرعية في الرياض من التزام باستكمال تنفيذ مقوّمات الوحدة الاقتصادية والمنظومة الدفاعية والأمنية المشتركة، وتنسيق المواقف، "بما يعزّز التضامن واستقرار دول المجلس ويحافظ على مصالحها، ويجنّبها الصراعات الإقليمية والدولية، ويلبي تطلعات مواطنيها وطموحاتهم، ويعزّز دورها الإقليمي والدولي"، والتي سبقتها جولة مهمة لولي العهد السعودي على دول المجلس وُقّعت خلالها مجموعة مهمة من الاتفاقيات الاقتصادية والتنموية والتطويرية تتطابق وتنفيذ رؤية المملكة 2030، لا سيّما لناحية شبك دول المجلس، وعواصمها، وموانئها، بشبكة مواصلات سريعة ومتطورة.
في أيلول 2030، سوف يحتفل السعوديون بالذكرى المئوية لاستقلال المملكة وإعلان وحدتها، ويحتفلون أيضاَ بإنجازات رؤية 2030، وبالتحولات التي سلكتها من دولة القبيلة إلى دولة حديثة يتم قيادتها عبر مؤسّسات ضخمة وتقنيات عالية الجودة والتطور، حيث باتت دولةً بالمقياس العالمي وعضواً في مجموعة دول العشرين، بكونها واحدة من أكبر اقتصادات العالم، وهي تسعى للتقدم حسب رؤيتها لتحل في المرتبة التاسعة في الترتيب العالمي.
هذا المسار التصاعدي لتطور الدولة السعودية ما كان ليتحقق لو لم تعتمد المملكة المقاييس الحديثة في تصنيف الدول الفاعلة والمؤثرة، والذي لا يرتبط بغنى الدولة أو فقرها، ولا بحجم الاحتياط المالي، ولا بعديد القوات المسلحة أو المقاتلة على الأرض، بل في قدرة هذه الدول أو تلك على قيادة وتسيير ملفات دولية سواء من موقع القيادة الأولى، أو من موقع القدرة على التأثير على تلك الملفات.
وعلى هذا الأساس تعتبر الدول العشرين أكثر قدرة وتأثيرا على الاقتصاد العالمي، نظراً لدورها في إدارة الملفات الدولية الرئيسية الكبرى، من ملف الطاقة، إلى المال، إلى الصناعة، إلى التجارة، إلى الأمن والبيئة وخلافه، حيث تحتل المملكة العربية السعودية المرتبة 17 بين تلك الدول. وللمملكة العربية السعودية دور فاعل في الأمم المتحدة، وفي جامعة الدول العربية، وفي منظمة التعاون الإسلامي. كذلك لديها مجلس التعاون الخليجي والتحالف العربي الذي نشأ في مواجهة الحرب في اليمن، ودور رئيسي في التحالف الدولي ضد الإرهاب في سوريا والعراق، وفي التحالف الدولي في دول الساحل والصحراء بأفريقيا، وأيضا في إنشاء مجموعة أمن دول البحر الأحمر، هذا فضلاً عن أدوار متشعبة في الحوار المسيحي- الإسلامي، وفي إنتاج سياسة بيئية نظيفة على المسرح الدولي، لا سيّما ارتباطها بمسألة إنتاج الطاقة داخل منظمة الأوبك.
لقد شبكت المملكة علاقات ثنائية مع العديد من دول العالم منتهجةً سياسة براغماتية تقوم على تبادل المصالح الندّية والاستثمارات المتبادلة بما يتلازم والقوانين الدولية السائدة في العالم اليوم، وهي علاقات تقوم على قاعدة توطين الصناعات الأساسية داخل المملكة، وكذلك علاقاتها مع الدول الزراعية مثل السودان، والأرجنتين، ودول طاجكستان وأوزبكستان، حيث استطاعت المملكة الاستثمار فيها، واستئجار وامتلاك مساحة تقارب النصف مليون كيلومتراً مربعاً للإنتاج الزراعي لحسابها الخاص خارج منطقتها، إضافةً إلى علاقتها مع دول العمالة الآسيوية والإفريقية والعربية. ومآثر هذه العلاقات أيضاً على تلك الدول فضلا عن برامج المساعدات، وبرامج الإغاثة الناشطة والقوية التي تؤديها مؤسّسات الإغاثة والمساعدة الإنسانية السعودية.
يصنّف خبراء الاقتصاد المعاصر المملكة العربية السعودية كرابع، أو خامس، دولة في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، التي تعتمد على مواردها الداخلية. فالاقتصاد البريطاني، مثلاً، هو اقتصاد تجاري يقوم 70% منه على الاستيراد والتصدير، وليس لديه موارد محلية كما هو حال الاقتصاد الأميركي الذي يقوم على 70% من الموارد المحلية والتصنيع المحلي والتصدير. والمملكة العربية السعودية دولة تمتلك مواردَ داخلية مؤهلة لأن تبني اقتصاداً يبدأ من إنتاج المواد الأولية، مروراً بالتصنيع الصناعي والزراعي والتقني والمعلوماتي، وحتى الذري، حيث أنّها تمتلك من اليورانيوم الخام القابل للإنتاج كل احتياجاتها لإنشاء مفاعل نووي، مع الإشارة إلى أنّ رؤية 2030 تذهب إلى توطين الصناعات الثقيلة، والمتوسطة، والصناعات التي تقوم على موارد محلية وتطوير الزراعة المحلية بما يتناسب مع البيئة والمناخ وإطلاق ثورة خضراء، على غرار مشروع 10 مليار شجرة سيتمّ زراعتها في المملكة كجزء من مشروع بيئي شرق أوسطي لغرس أكثر من 60 مليار شجرة في منطقة الشرق الأوسط.
الحديث عن المملكة العربية السعودية الجديدة يأخذنا إلى الحديث عن تغيير خارطة السياحة، وتغيير خارطة المواصلات، وتغيير خارطة الاستثمارات في الشرق الأوسط، بحيث تصبح الرياض والمملكة المركز الرئيسي المحوري بين تلك الخرائط. فمدينة الرياض التي تبلغ مساحتها الإجمالية الآن 2,000 كيلومتراً مربعاً يصل مخطّط نموّها لتصبح 5,000 كيلومتراً مربعاً بقدرةٍ استيعابية لعشرين مليون إنسان، وبالتالي تستعد الرياض لأن تكون عاصمة الشرق الأوسط الحقيقي، الاقتصادي والمالي والتجاري، وهذا من عناصر القوة التي يجب أن ندرك معناها عندما نتعامل مع مثل هذه الدول.
هذا التطور في بنية الدولة العميقة السعودية له وزن وتأثير على ملفات الشرق الأوسط. وإذا كانت الأضواء الدولية اليوم مسلطة تحت ضغط الاتفاق النووي مع إيران، فموقف المملكة العربية السعودية واضح في هذا المقام منذ دعوتها لإقامة شرق أوسط خالٍ من المفاعلات النووية، وهي لن ينتابها الخوف من ذلك، إنّما تحاول جاهدةً وقف التمدّد الإيراني في الدول العربية، وفي طريقة إدارة الصراع في المنطقة وهي ملفات متحركة ارتبطت بالمفاوضات النووية. ولطالما لم يتم الإعلان عن أي اتفاق جديد فإنّ الخيارات والنتائج غير محسومة، وبالتالي قد تتّجه الأمور نحو انعطافةٍ غير مضمونة النتائج.