Advertise here

وستفاليا جديدة للشّرق الأوسط لوقف الفوضى والانفلاش

24 كانون الأول 2021 07:43:53

منذ عام 1648، لم ينسَ العالم مؤتمر وستفاليا الذي عُقد وسط أوروبا وأنهى الحروب الطويلة بين شعوب القارة، وأسس لمقاربة دولية جديدة تعتمد على مبادئ ثلاثة: أولوية الولاء الوطني لا الديني للمواطنين، وسيادة الدولة على أراضيها مهما كان حجمها، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.

ورغم الحروب والنزاعات اللاحقة بقيَ احترام هذه المبادئ سارياً في حدود معقولة، واعتمدها إعلان إنشاء عصبة الأمم لعام 1919، ومن ثم أدرجت هذه المبادئ في متن ميثاق الأمم المتحدة عام 1945.

 

حروب المنطقة الشرق أوسطية على تنوعاتها فاقت بمدتها وبمآسيها الحروب الأوروبية التي جرت بشكل متواصل بين عامي 1618 و1648 على مدى 30 عاماً، وخلال ما يقارب 75 عاماً مضت؛ لم تتوقف الاضطرابات بين الدول والجماعات والمحاور على امتداد جغرافيا الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا، ويمكن اعتبار عام 1947 منطلقاً لبدء هذه الصراعات، أي منذ قرار تقسيم فلسطين الى دولة عربية ودولة يهودية، ومعها انطلقت العصابات الصهيونية لاغتصاب كامل فلسطين وتشريد شعبها وانتهاك حقوقه الوطنية المشروعة.

 

وقد تنوعت حروب المنطقة بين ما يحمل منها طابعاً قومياً تحررياً، وما يخفي خلفيات أممية، خصوصاً في مرحلة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة الأميركية، وصولاً الى خريطة النزاعات الحالية التي استعملت الصراع العربي – الإسرائيلي والتحركات الشعبية المطلبية للتأسيس لنزاعات وحروب قذرة، دمّرت مفاهيم السيادة للدول، وتجاوزت مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، كما هشّمت مفهوم الولاء الوطني للناس، وتقدمت الهوية الطائفية والمذهبية في بعض بلدان المنطقة على الولاءات الوطنية والقومية.

 

لا يمكن الدخول في التجارب المريرة المتنوعة التي حصلت إبان حروب المنطقة ونزاعاتها في السنوات الماضية، ومنها ما يشبه ما حصل في مطلع القرن السادس عشر بين الإمبراطورية البرتغالية القوية والدولة الصفاوية، إذ اتفقت القوتان على أن تسيطر الأولى على الممرات المائية، لا سيما مضيق هرمز، مقابل دخول الصفاويين الى بغداد ودمشق. ومن الواضح أن حروب الحقبة الحالية أدت الى مآسٍ لا توصف، بسبب الدمار والخراب والتهجير والتخلف وإعاقة التنمية التي سببتها، لا سيما في البلدان التي عاشت الويلات أكثر من غيرها، خصوصاً فلسطين واليمن والصومال ولبنان وسوريا والعراق وليبيا. 

 

لكن الظاهرة التي لا بد من أن تتوقف؛ هي المبالغة في استباحة السيادة الوطنية التي تفاقمت في العقدين الأخيرين، وتحديداً بعد انفراط الثنائية القطبية لمصلحة فوضى دولية بدأت منذ عام 1990، وقد استغلت إسرائيل وإيران هذه الوضعية لتعميم الاضطرابات وإشعال الاقتتال وتوسيع العدوان، في سيناريو يحمل مخاصمة أو عداءً بين الدولتين على وجه التحديد؛ ولكنه يحمل شكلاً من أشكال توزيع الأدوار بينهما لتحقيق أهدافهما على حساب الحضور العربي، ولا أمل بتوقف هذه الاستباحة إلا بمؤتمر دولي تفرضه القوى الكبرى، أو بالمقاومة، لكن الخيار الثاني يمدد حالة الحرب بدل أن ينهيها.

 

نموذج الفوضى الهدامة (أو البناءة) الذي يُنسب الى وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأميركية سابقاً كونداليزا رايس؛ يمارسه على شاكلته القاتمة أخصام الولايات المتحدة الأميركية، وهؤلاء استفادوا من الأخطاء الأميركية على مدى ربع قرن لتوليف مكانة مؤثرة لهم تتجاوز أحجام دولهم الطبيعية. فغابت عن الأولويات مسألة استعادة الحقوق الوطنية للفلسطينيين، وأهمها إقامة دولة مستقلة لهم وعاصمتها القدس – وفق مبادرة السلام العربية التي أقرتها قمة بيروت لعام 2002 – بل على العكس، استُغلّ التعاطف العربي والإسلامي العام مع هذه القضية العادلة لتمرير مشاريع توسعية لدول إقليمية تحلم باستعادة أمجادها الإمبراطورية الغابرة.

 

تجاوزت الانعكاسات السلبية للحروب المتنقلة في المنطقة كل الحدود، وتكاد المآسي لا تحتمل، واستمرار هذه الوضعية سيفاقم المشكلات أكثر فأكثر، وسيؤدي الى تنامي مشاعر النفور الديني، أو الى "حروب دينية". وما يحصل في العراق وفي سوريا وفي لبنان لا يمكن تصور نتائجه المكربة إذا ما استمرّ اعتماد المقاربات القاتمة الحالية. وهناك دول تستفيد من هذه الفوضى وهذا الانحلال لتكريس استباحات مؤذية وبالغة الخطورة.

 

كل المعطيات التي تتجمع عن النزاعات القائمة في المنطقة تفرض عقد مؤتمر "وستفاليا شرق أوسطي"، يضع حداً للحروب المدمرة القائمة، ويعيد إحياء مبادئ وستفاليا القديم، ويضع ضوابط تمنع استباحة سيادة الدول القائمة، ويعيد الأهمية للحدود الوطنية للدول ومنع التدخل في شؤونها الداخلية. ولا بد لوستفاليا الجديد من حسم مسألة التسوية السلمية في المنطقة، وركيزتها إقامة دولة فلسطينية مستقلة، تعيد الحق الى أصحابه، وتوقِف مسلسل الاستغلال للقضية الفلسطينية لأغراض لا تمت بأي صلة لجوهر القضية، كتغذية الإرهاب والتطرف وممارسة القمع وتقويض الانتظام العام.

 

كان موضوع عقد مؤتمر دولي حول الشرق الأوسط مطروحاً بقوة في مرحلة ماضية، فهل تتجدد الفكرة علّها تنقذ ما تبقى، وتوقف التراجع المخيف في منسوب القيم الدولية؟