Advertise here

مع أولى زخات المطر... عندما سكَن الجحيم

12 كانون الأول 2021 12:33:23

وأكملنا رحلتنا مع أولى زخات المطر... لكن الأسئلة لم تغادر ذهني... 
لا يمكنني إقصاءُ عقلي عن التأمل في قضية التفاحة... وفي مفهوم المسؤولية وما تفرضه من ثواب أو عقاب... وفي مبدأ المشاركة وحرية الإرادة والقرار...
ربما أتوقف يومًا عن التفكير، ولكني كلما هدأتْ عواصف شكّي ويقيني، تعود غيومُ اللامعرفة التي تختبئُ خلفها الحقائقُ كشمسِ شتاءٍ محتجبةٍ خلفَ سحاب أسود لتوقظ فيي ألف سؤال وسؤال... والسؤال شريعةُ حق، أليس كذلك؟! لو لم يكن السؤالُ شريعةَ حقٍ أكُنَّا أُعْطينا العقلَ لنعقلَ ونربطَ ونحللَ ونفهمَ وندركَ إدراكَ يقين؟... لو لم يكنْ علينا أن نسألَ وأن نبحثَ أمَا كنا أُبْقينا على غرائزِنا تُحرّكُنا بِبَوصَلةٍ ضُبِطَتْ سابقًا؟... الخوفُ ليسَ من السؤال، إنما هو الخشيةُ ربما مما يمكنُ أنْ يقودَ إليه مِنْ إجاباتٍ، كما في حالِ تِلْكَ الشجرة... 
اِبتعدْنا عنها، وهجرْنا فضاءَها، لكنَّ بكاءَها على أوراقِها المَيْتَةِ الخضراءِ لا يزالُ يغرِزُ في روحِي أخاديدَ مِنْ وجعٍ... بل أخاديد مِنْ نارٍ تشْتَعل...
«أَهيَ روحِي التي تبكي حالَ تلكَ الشجرةِ التي ثَكِلَتْ أبناءَها أمْ إنّه سَعِيرٌ نسيرُ إليه دبيبَ نملٍ وزحفَ أفعى؟ وأنت أصبحتِ لطيفةً كَنورِ سنا ذاك الأفْقِ المُنْتَظَرِ؟!» سألتُ وِشَاحَ المطر... فابتسم...
«أيمكنك فصل ما يعتمر الروح طالما هي على اتصال بقميص من طين عمّا يجري في كل وجود موجود؟! هو النور، هي النار... أنظري حيث يلتفّ السبيل...»
ونَظرْتُ... شراراتٌ من نار ٍمتراقصةٍ متجانسةٍ متخاصمةٍ متألقةٍ تتسابقُ على رسْمِ أجْملِ لوحاتِ الحياةِ على صخورٍ من حديدٍ وأثيرٍ وفَحْمٍ وأزمان... صخوٌر حُفِرتْ فيها قصّةُ الأبد، وتعاقبُ الدهور... تنوّعَتْ خطوطُها، وهيئاتُها، وترانيمُها التي تهمِسُ في أُذُنِ كلِّ زائرٍ بِحكايةٍ هي ماهِيَّتُه وحقيقتُه وغياهبُ جَوَّانيتِه... صخورٌ تحاكي كلَّ موجودٍ، تُماهيهِ، تُعاديهِ، تَسيرُ به عَبْرَ العصورِ، تَرْفَعُهُ مِنْ قاَعٍ إلى قِمَّةٍ، وتَخْسِفُ بِهِ مِنْ أعلى إلى حفرةٍ، وتَبسُطُ أمامَه الوَعْرَ، وتزرع السدودَ في بعضِ السبيلِ... صخورٌ كُلَّما سبَحْتَ معها في عَلْيائِها عَزَفْتَ على ألوانِ السِّماكِ، ومتى غُصْتَ معها في مياهها اشْتعلْتَ بحرارةِ اتْقَادٍ يحْرِقُ لِيُنْبِتَ...
«أنحنُ في رحِمِ أرضٍ جديد؟!»
«نعم... نحن في رحابِ أوَّلِ الأرحامِ؛ الرَّحمِ الذي لا يَهْدأ، ولا يَبْرُد، حيثُ الشمسُ التي تَنْبعِثُ مِنَ الجوْفِ لا مِنَ الفضاءِ، حيثُ الحياةُ التي تَنْطلقُ مِنَ النَّواةِ، والريشةُ التي تُعيدُ تَشْكيلَ ما صَنعتْهُ مِنْ لوحاتٍ عَبرَ الزَّمَن، والمِعْوَلُ الذي يبْسُطُ سهولَ قمحٍ جديدةٍ، والمعولُ الذي يحْفِرُ وهادًا فريدةً، والمتعبّدُ الذي يرفَعُ للسَّماءِ قِممًا إلى السَّماءِ ناظرةً تملأ حنَاياها من هوائِها النقيِّ وسناها اليقين... الرحمُ الذي يزيدنا اتقادًا كلَّما منْه اقتربْنَا...»
«كلما زِدْنا اتقادًا يتضَاعَفُ شعوري بِالدفْءِ وأنتَ تزدادُ لطافةً يا وشاحَ المطرِ... وكلّما نطَقْتُ اِبتسمْتَ...»
«هي ابتسامةُ الفرحِ بما فيكِ مِنْ فضولٍ لليقين، وشوقٍ للمعرفةِ، وقدرةٍ على الملاحظةِ، وشجاعةٍ في طَرْحِ السؤال... هي ابتسامةُ الفرحِ... ابتسامةُ الفرحِ...
نعم؛ كلما زِدْنا اتقادًا كلما ازدادَ دفؤنا ولطافتُنا، أي نقاءَنا، إذا كان فينا للنقاءِ مَنْبَتٌ...»
«وإذا لم يكنْ؟!»
«هي جقيقةُ الوجودِ في كل موجودٍ، حقيقةُ ما فيه مِنْ ماهيةٍ، حقيقةُ ما يُخفيه خلْفَ جدرانِ اللِّسانِ، وبَرِيقِ العين، وهيْبَةِ الصَّمْتِ، وَوَقْعِ الأثَرِ... فإِنْ كانَ هذا الوجودُ أرضَ صفاءٍ، ونقاءٍ، وفعلِ فضيلةٍ، كانَ الاتقادُ تنامِيًا في السَّنا والتسامي، واقترابًا من أصْلِ هذا الوجودِ، ولطافةِ روحانيَّاتِه، وأشرعةِ عِلْمِه، وأنهارِ معرفَتِهِ، وإسرارِ أسرارِهِ... وكان الاتقاد تجليًا لِوَحْدَةِ الخَلْقِ، وَوحْدَةِ الإنْسَانِ، وتَرَفُّعِ الأنا، واتِّحادِ الوجودِ بسرِّ وجودِهِ، وتَصالُحِ الكثِيفِ مع اللَّطيف، والاتحادَ والنورَ المرتجى يومًا على أعتابِ رُسُوِّ الشِّراعِ عنْدَ عَتْبةِ المرفأِ الأخيرِ...
أمّا إنْ كان هذا الوجودُ منشأً للشرِّ، ومرسًى للرياءِ، ولكلِّ ضَرٍّ، ولكلّ ضِدٍّ، كانَ الاتقادُ سبيلاً لاتحادِ الوجودِ بمنشِئِهِ... وكانَ الدفْءُ نارًا تقتَاتُ على ذاتِها، راسِخةً في مكانها رُسُوخَ الحجَرِ، تحْرِقُ ذاتَها حتى تَنْضَبَ ثم تتولَّدُ مِنْ جديدٍ لِتحْرِقَ نفسَها حتى تنْضَبَ فتتولَّدَ مِن جديدٍ مدى الأبد...
وإنْ كانَ هذا الوجودُ مِنْ عَدَم، فَحرارةُ هذا الدفْءِ سَتُعيدُ العَدَمَ إلى عدَمِهِ، والفَنَاءَ إلى فنائِهِ... 
انظري بِعَيْنِ اليقينِ لا بمُقْلةِ البَصَر؛ هذا الرَّحِمُ لا يؤْلمُ إلاّ مَنْ جُبِلَ مِنْ ألَمٍ، وآخَاهُ واتَّحَدَ مَعَهُ، أمّا مَنْ تماهَى والنور، فدفْءُ هذا السَّعيرِ سيُمْسِكُ بِروحِهِ بِلطافةِ رَحِمِ أمٍ تَحتضِنُ وليدَهَا وَيرتقِي بِهِ إلى عالمِ النُّورِ...
هذه الأنوارُ والشَّراراتُ هي نواةُ كلِّ الأرحَامِ...بِطُهْرِهَا يَسْكُنُ كلُّ جَحيمٍ...
... هاتِ يدَكِ، لنُحلِّقَ وجُودَيْنِ لَطِيفَيْنِ مَعَ زخَّاتِ المَطَرِ...»
 

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".