لم تعد الدول الخليجية العربية في وارد الاعتماد الكلّي على شركاء استراتيجيين لها، بل هي في صدد قيادة مسيرتها بدلاً من الاستلقاء في انتظار قرارات وتحوّلات إقليمية ودولية، تؤثّر في مصيرها بلا أن يُؤخَذ برأيها. بغضّ النظر عن مصير المفاوضات النووية الإيرانية في فيينا التي دخلت المرحلة الأدقّ والاختبار الصعب، تمضي دول مجلس التعاون الخليجي، بالذات السعودية والإمارات، نحو تنفيذ فعلي لرؤى براغماتية جريئة، لا تخشى المنافسة ولا تتردد في إعادة النظر في قراراتها عندما ترتئي أن التطورات تفرض الليونة والتأقلم. جولة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على دول مجلس التعاون الخليجي، وشملت قطر، تأتي تماماً في هذا السياق، وإصدار البيانات المشتركة - كتلك بين السعودية والإمارات - رسَم خريطة طريق واضحة للعلاقات الثنائية والمواقف من الأزمات الإقليمية مثل العراق وسوريا واليمن ولبنان. كذلك، أتت زيارات كبار المسؤولين الإماراتيين لكل من تركيا وإيران لتبيّن أن الواقعية السياسية دفعت الى تغيير جذري في العلاقات مع هذين البلدين المهمّين في موازين القوى الإقليمية، بعدما كانت الإمارات قد قفزت قفزة نوعية في العلاقات مع إسرائيل التي تشكّل الساق الثالثة في هذه الموازين.
أثناء مؤتمر الأمن لدولة الإمارات العربية الذي عقدته "مؤسسة الدول الخليجية العربية" في واشنطن AGSIW هذا الأسبوع، تحدّث المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، أنور قرقاش، عن "حاجتنا الى إعادة التموضع" we need to reconfigure والحاجة الى "تجنّب الفراغ والتصعيد"، we need to avoid vaccum and escalation وضرورة وضع الاقتصاد والازدهار في مرتبة واحدة مع الأمن والاستقرار.
"الاستقرار بمفهومه الجديد" هو عنوان قمّة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي، بنسختها الرابعة التي كان مزمعاً عقدها عام 2020، وتم تأجيلها الى آذار (مارس) 2022 بسبب جائحة كورونا. هذا العنوان يطرح سؤالاً مهماً هو: "من يصوغ المستقبل"، إذاً؟ فالعقود المقبلة لن تكون على نسق العقود الماضية، ليس فقط لجهة أولويات الإنماء والتطوير، بل أيضاً لجهة علاقات الدول الخليجية العربية مع الولايات المتحدة استراتيجياً وأمنياً، الى جانب علاقاتها الاقتصادية الحيوية مع دول أخرى كبرى كالصين والهند.
قرقاش على حق عندما يميّز بين العلاقات مع الولايات المتحدة في زمن الرئيس جيمي كارتر قبل 41 سنة، وبين العلاقات الأميركية - الخليجية في زمن الرئيس جو بايدن، وكلاهما ديموقراطي. عام 1980، تبنّت الولايات المتحدة الأميركية ما سُمّي بـ"عقيدة كارتر" Carter Doctrine، وكشف عنها الرئيس أثناء خطاب "حالة الاتحاد" السنوي أمام الكونغرس، هذه العقيدة تنصّ على السماح للولايات المتحدة باستخدام القوة العسكرية للدفاع عن مصالحها في منطقة الخليج العربي. وكان هذا المبدأ رداً على غزو الاتحاد السوفياتي أفغانستان عام 1979، إذ اعتبر الرئيس كارتر أن القوات السوفياتية في أفغانستان تشكّل تهديداً خطيراً لحرية حركة نفط الشرق الأوسط.
ما قاله قرقاش هو أن العلاقات الأميركية مع الدول الخليجية العربية للثلاثين سنة المقبلة ستختلف عما كانت عليه في الثلاثين سنة الماضية. "ويجب علينا أن نتجنّب نزاعات كبرى تورّط الولايات المتحدة في المنطقة". أضاف أن لا مصلحة لأحد "في تخبّط أميركا في نزاع إقليمي آخر، كما حدث في العراق"، وأن هناك حاجة للتمييز بين "المؤشرات والضجيج" في تطورات المنطقة.
الولايات المتحدة تبقى الحليف الاستراتيجي الأول لدولة الإمارات، قال قرقاش، لكنْ "هذا عقد مختلف"، والدور الأساسي للولايات المتحدة نحو الاستقرار "يكمن في تجنّب التصعيد والفراغ" كالذي قام تنظيم "داعش" بملئه في العراق، ويُخشى أن تقوم تنظيمات مشابهة بدور مشابه بملء الفراغ في أفغانستان أو اليمن. فهذا، بحسب قوله، زمن إدارة الأزمات، ونزع فتيل النزاعات عبر البدء بوقف النار ثم بعد ذلك البحث عن حلول سياسية، والإقدام على سياسات جريئة على نسق الاتفاقيات الإبراهيمية مع إسرائيل، والتواصل مع تركيا، والزيارات لسوريا وإيران، وتأكيد اتفاقيات إعلان العُلا بين دول مجلس التعاون الخليجي.
الدول الخليجية العربية لا تتمنّى فشلاً للمفاوضات النووية في فيينا، لأنها تخشى أن ينعكس التوتّر بين الولايات المتحدة وإسرائيل وبين إيران عليها وعلى أمنها، لا سيّما في حال التصعيد واندلاع المواجهة. المحادثات قائمة بين إيران والإمارات على مستوى زيارات رسمية علنية بمستوى رفيع، على نسق زيارة مستشار الأمن الوطني الإماراتي طحنون بن زايد طهران. والمحادثات بين السعودية وإيران بعد 4 جولات ستبقى مستمرة، حتى وإن لم تؤدِّ بعد الى نتيجة بسبب إصرار طهران على عدم التحدّث عن ملف اليمن، قبل أن توافق السعودية على بحث الآليات الأمنية في منطقة الخليج.
تأتي هذه المحادثات مع قرارات خليجية قامت على أساس التهدئة واحتواء التصعيد de-escalation مع أطراف المنطقة الأخرى، سواء بين السعودية وإيران، أم بين الإمارات وتركيا، أم بين مصر وتركيا. فهناك حركة تفيد بالإصرار على الانتقال من تصعيد الأزمات الى احتوائها الى استبدالها بتعاون إقليمي، بدلاً من التصادم الإقليمي لمختلف الأسباب.
زيارة ولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان أنقرة، ولقاؤه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل أسبوعين بشّرا ببداية "عهد جديد" في العلاقات بين البلدين، بحسب وصف أردوغان. ولقد تم أثناء الزيارة توقيع اتفاقات بمليارات الدولارات، وتبعتها مباحثات في فرص التعاون في مجال الصناعات العسكرية. تقاطُع الزيارتين المهمتين لكل من أنقرة وطهران لافت لجهة احتمال تعزيز الخط التجاري الذي يربط الإمارات بتركيا عبر إيران، والذي يساهم بشكل أو بآخر في مسار التهدئة بين هذه الدول.
ليس واضحاً ما يحمله الوفد الأميركي الى دولة الإمارات الأسبوع المقبل، لبحث العلاقات الاقتصادية والمالية والتجارية بين الإمارات وإيران، والتي تصل الى 16 مليار دولار سنوياً. عندما قام وزير خارجية الإمارات الشيخ عبد الله بن زايد بزيارة رسمية لدمشق قبل بضعة أسابيع، اعترضت إدارة بايدن قليلاً وبلطف شديد. فإذا كانت إدارة بايدن تتحرّك نحو تشديد تطبيق العقوبات على إيران، فسيكون ذلك مؤشراً الى استمرار الفشل في التوصل الى الصفقة في فيينا، والتي بموجبها يتم رفع عقوبات عن إيران وإحياء الاتفاقية النووية JCPOA. عندئذ ستطلب إدارة بايدن من دولة الإمارات التعاون في ضبط المعاملات التجارية والمالية والشركات والبنوك الخاصة التي تقفز على العقوبات المفروضة على إيران. وإذا تحلحلت مفاوضات فيينا، فستكون مهمّة الوفد الأميركي مختلفة.
الجمهورية الإسلامية الإيرانية أخذت هذا الأسبوع الى التصعيد والبِدَع والمغامرة في الجولة السابعة من مفاوضات فيينا. بدعة من بدع طهران تمثّلت في تسويق فكرة تبني الاتفاقية النووية لعام 2015، تماماً كما هي من دون أي تعديل أو تطوير، على أن يرافق ذلك إصدار بيان communique غير ملزم يُعبّر عن رغبات وتمنيات أميركية أو أوروبية بهذا البند أو ذاك. بمعنى أن يتطرّق البيان الى مسائل آليات المراقبة للبرنامج النووي الإيراني، ومسائل الصواريخ، وربما التمنّي بسلوك إقليمي مواتٍ. لكن الأساس هو فكرة تبنّي الاتفاقية النووية بصيغتها الأساسية بلا تعديل أو تطوير. منطقياً، يُفترض أن يكون ذلك مرفوضاً أميركياً. لكن لا أحد يعلم، لا سيّما أمام الضغوط الأوروبية.
البدعة الأخرى تدخل في خانة التخويف، إذ إنها تنطلق من التهديد بأن إيران غير مستعجلة على أي اتفاق نووي، وأنه في حال عدم التوصّل الى إحياء الاتفاقية النووية بحلول 22 الشهر الجاري، أي قبل عيد الميلاد، فإن طهران ليست في عجلة من أمرها للعودة الى المفاوضات. ما يقوله الإيرانيون لأصدقائهم هو أنهم على استعداد لإصدار بيان رسمي، ينص على أن في وسعهم الاستغناء عن إحياء الاتفاقية والانتظار الى حين قبول شروطهم.
أحد الشروط المسبقة التعجيزية التي فاجأت بها إيران المفاوضين الأميركيين والأوروبيين هو شرط رفع كامل العقوبات الاقتصادية دفعة واحدة. هذا يكاد يكون مستحيلاً على إدارة بايدن، حتى وإن أرادت تلبية الشرط. أوروبا لا تبالي بأي صعوبة على أميركا، وهي مستعدة لإلقاء اللوم على إدارة بايدن، وليس على طهران، إذا فشلت مفاوضات فيينا. فإذا كانت إدارة بايدن مستميتة، فإن الحكومات الأوروبية متأهّبة للاغتيال السياسي لإدارة بايدن إذا رفضت الخضوع أمام شروط طهران. ثم هناك ما تريده إدارة بايدن في موضوع أوكرانيا من أوروبا. وأوروبا تلوّح بالابتزاز.
طهران تعتمد، كالعادة، على رفاقها الأوروبيين في المفاوضات النووية، وهي متأكدة وواثقة من أن إدارة بايدن ستلبّي شروطها لأن الرئيس الأميركي في حاجة الى هذه الصفقة، ولأن الحكومات الأوروبية ليست راغبة في المقايضات ولا في أمن دول المنطقة، بما فيها إسرائيل. فكل ما تريده هو إحياء الاتفاقية النووية حتى من دون آليات مراقبة جدّية للبرنامج النووي الإيراني. إنه الهوس النووي الأوروبي، حسبما يُزعَم، لكن في الأمر غايات خفيّة شريرة أكثر، حسبما يبدو.
طهران تلعب على أوتار دق إسفين بين إدارة بايدن وأصدقائها الأوروبيين، هكذا تربح إذا تم الاتفاق أو حصل الاختلاف. قد يكون رهانها رابحاً، وقد تؤدي مكابرتها الى نتيجة مغايرة، فيضطر الأوروبيون الى التزام العقوبات على إيران اكثر فأكثر إذا أفشَلت طهران المفاوضات. سنرى.
في هذه الأثناء، تمضي الدول الخليجية العربية الى إعادة هندسة الأولويات والى التموضع على أساس رؤية واضحة، تتعدّى القبوع في خانة الضحيّة وتترفّع عن الضجيج وعن البدع.