تشغل التحاويل المالية إلى الخارج بعد 17 تشرين الأول من العام 2019 حيّزاً كبيراً من النقاش الإقتصادي والنقدي الدائر في البلد. عدا عن قيمتها الكبيرة المقدرة بمليارات الدولارت، فقد سمحت لفئة محددة جداً "تهريب" أموالهم النقدية على حساب كل المودعين والإقتصاد. معرفة مصرف لبنان بهذه التحاويل ليست "أسطورة" كما عبّر حاكم "المركزي"، وجرمها يتخطى المعايير المعنوية والأخلاقية، ويصل إلى حد المخالفة الجزائية.
في نيسان العام 2020 إتهم رئيس الحكومة السابقة حسان دياب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بتغطيته خروج ودائع بقيمة 5.7 مليارات دولار في شهري كانون الثاني وشباط. فرد سلامة على الإتهام مصححاً الرقم بـ 5.9 مليارات، شارحاً أن "3.9 مليارات دولار استعملت لتغطية القروض. و2 مليار دولار سحبت نقداً من الحسابات، منها 577 مليون دولار بالعملة الأجنبية، والباقي بالليرة اللبنانية. وهذا ما يثبت من حيث الشكل معرفة حاكم مصرف لبنان بقيمة الأموال التي خرجت من القطاع المصرفي وكيفية توزعها.
معرفة حجم التحاويل
أما في المضمون فيذهب خبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي أبعد من ذلك، مستعرضاً أكثر من طريقة تقنية تتيح لحاكم مصرف لبنان معرفة حجم الأموال المحوّلة بشكل أساسي، ولمن تعود إن تقصّد الغوص أكثر في التفاصيل، ومن هذه الطرق:
- وجود منصة "سويفت" Swift التي تتيح للحاكم الاطلاع على حجم التحاويل وليس تفاصيلها. خصوصاً أن المصارف ملزمة باعتماد الرموز المؤلفة من 8 أو 11 حرفاً أو رقماً عند إرسال أو تلقي مدفوعات دولية. حيث توضح تلك الرموز بصيغتها الخاصة الدولة المحول اليها والبنك المقصود. وتصدر المنصة تقارير شهرية بحجم وعملة التحاويل إلى الخارج. ومن هنا تعطي هذه التقارير الحاكم، ولو لم تظهر الأسماء، نظرة أكثر من وافية عن حجم التحاويل وضرورة التنبه إن كان هناك من أمر غريب يحصل.
- يحق لمصرف لبنان الطلب من كل مصرف على حدة إعطاءه تقريراً يومياً مفصلاً بحجم تحاويله إلى الخارج. وقد بدأت هذه السياسة في أواخر العام 2019. وفي هذه الحالة تُقدم المصارف غب الطلب تقريراً عن حجم الأموال المحولة وعدد الحسابات المحول منها، مع الإبقاء على أسماء أصحابها مخفية.
- الزيارات الرقابية لكل مصرف على حدة التي تقوم بها لجنة الرقابة على المصارف التي يرأسها الحاكم، وامتلاكها صلاحية الدخول في تفاصيل كل ما يتعلق بالتمويل التجاري trade finance في ما يخص الاعتمادات والتحاويل بالاسماء وبتفاصيل الملف المملة. وهي تدخل تحت غطاء أخذ عينات sampling. وقد بلغت نسبة العينات المأخوذة في الآونة الأخيرة حوالى 80 في المئة من الملفات، مع العلم أن هذه النسبة يجب ألا تتعدى 20 إلى 30 في المئة.
كيفية توزّعها
الوقائع تثبت أن الحاكم كان على بينة من كل أرقام التحاويل إلى الخارج، التي حدثت، وما زالت تحدث لغاية اليوم. والصلاحيات الموجودة بين يديه تتيح له معرفة حجم المبالغ الخارجة من النظام المصرفي وكيفية توزيعها سواء كانت قد خرجت لتسديد التسليفات، أو حُوّلت إلى الخارج، أو سحبت نقداً لتوضع في المنازل والخزنات الحديدية. والمسؤولية النقدية تقتضي عدم أخذ دور المتفرج، إنما التدخل لوقف النزيف.
حيث كان بامكانه إصدار تعميم استباقي يلزم فيه المصارف فرملة عملية تحويل الأموال، بدلاً من الانتظار إلى ما بعد فوات الأوان وإصدار التعميم 154 الذي لم، ولن يطبق. وبحسب فحيلي فان "اعتبار الحاكم عملية تحويل الأموال إلى الخارج في الفترة الماضية غير مخالفة للقانون، يتناقض مع التعميم 154 الذي يجرم المصارف التي تعجز عن حث عملائها، على إرجاع نسبة تتراوح بين 15 و30 في المئة من المبالغ التي تفوق 500 ألف دولار الخارجة بعد العام 2017. إذ إن عدم تطبيق القرار يعرّض من حوّل الأموال إلى الخارج إلى مجموعة من العقوبات القانونية، ومنها تلك المنصوص عليها في القانون الرقم 44، أي مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب". وعليه، إن كان الحاكم يعتبر التعاميم التي تصدر عن "المركزي" ملزمة قانوناً، فتصبح عملية تحويل الأموال إلى الخارج مخالفة للتعاميم التي أصدرها بنفسه وبالتالي تعتبر مخالفة للقانون.
الكابيتال كونترول
غني عن القول أن كل هذه التجاوزات ما كانت لتحصل لو شُرّع قانون تقييد الرساميل مباشرة بعد 17 تشرين الأول 2019. واليوم وعلى الرغم من نفاد الرساميل في المصارف، ووجود 3 مسودات اقتراحات قوانين للكابيتال كونترول، وواحدة مخفية في "جيب" رئيس مجلس النواب نبيه بري، فانه "من غير الممكن أن تنجح إعادة هيكلة القطاع المصرفي في ظل غياب قانون عادل للكابيتال كونتورل"، برأي فحيلي، "أما في حالة عدم الاتفاق على قانون، فعلى المجلس النيابي تشريع تعاميم مصرف لبنان باعتبارها قوانين تنظيمية للقطاع المصرفي، خصوصاً لجهة التعميم 151 المتعلق بـ"ليلرة" الودائع بالعملة الاجنبية، والتعميم 158 الذي ينص على التسديد الجزئي للودائع بالعملة الأجنبية، واصدار قانون منفصل يبرّئ ذمة المصارف عن كل الارتكابات غير القانونية التي حدثت من أواخر 2019 إلى يومنا الحالي. وهذا ليس حبّاً بالمصارف، انما "إتاحة في المجال أمام تسهيل إعادة الهيكلة وتدفق رساميل جديدة على القطاع في ما بعد"، من وجهة نظر فحيلي. فـ"المستثمرون لا يمانعون ضخ الرساميل الجديدة في حال كانت المؤسسة تعاني من مخاطر إئتمانية، إلا أنهم على الأكيد لا يساهمون بدولار واحد في حال كانت هناك مخاطر تتعلق بالسمعة أو دعاوى قانونية. فالدعوى لاسترداد 100 ألف دولار على سبيل المثال قد تكبد البنك مبلغاً أكبر بكثير في حال نتج عنها ضرر لا يعوض.
ومن هنا فان مجرد صدور الحكم لمصلحة المودع فان التعويض يسجل كمطلوبات على المصرف. ولا سيما أن هناك العديد من الدعاوى على المصارف اللبنانية قائمة في الارجنتين وبريطانيا وأميركا ولبنان... وغيرها من الدول".
مثله مثل كل القوانين الاصلاحية فان قانون الكابيتال كونترول لن يوضع موضع التنفيذ إلا بعد تفريغه من أهدافه الجوهرية وبعد فوات الأوان. ولو لم يكن من مصلحة الطبقة السياسية المغطاة من السلطة النقدية تهريب الأموال بعد بدء الأزمة لما كنا وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.