Advertise here

النظام التوافقي ومعضلة ميزان القوى

22 تشرين الثاني 2021 15:31:38

يذهب بعض المفكرين الذين درسوا آليات الاستقرار في الأنظمة التوافقية، إلى أن فهم النخب لأهمية التسوية وقدرتهم على اجتراحها وتسويقها في معاقلهم السياسية، يعد عاملاً اساسياً في الاستقرار في انظمة المشاركة، وكذلك قدرتهم على بناء آليات تسهل اتخاذ القرارات في المؤسسات الدستورية، والامتناع عن استخدام الجيش والأجهزة الامنية والقضاء في لعبة ميزان القوى.

والأمثلة على قدرة النخب في الجمهورية الأولى في لبنان على اجتراح وتسويق التسويات كثيرة، لاسيما بعد ثورة 1958، إذ تمكنت هذه النخب من جعل المؤسسات الدستورية قادرة على العمل واتخاذ القرارات الهامة، وتسيير الإدارة والمرافق العامة الخدماتية. وأذكر في هذا المجال قولاً مأثوراً للشهيد كمال جنبلاط، جاء فيه "حب الحقيقة علمني جمال التسوية". وقد أكدت تجربة الجمهورية الأولى أنه في اللحظة التي تلاشى فيها الحوار وإمكانية التسوية، إذ راهنت بعض القوى على الاستقواء بالخارج، تحول لبنان بسرعة ساحة لحروب الداخل والخارج.

وفي المقابل، يشهد السياق السياسي للجمهورية الثانية على قدرة عدد من القادة السياسيين والدينيين على السير في تسوية الطائف وتغطيتها لدى جمهورهم وبناء الثقة والقيام بالمصالحات، وكان أبرزها المصالحة التاريخية التي جرت في المختارة عام 2001، برعاية البطريرك الراحل مار نصرالله صفير ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، الذي يبقى العلامة الفارقة في هذه الجمهورية بالدعوة الى الحوار والتمسك بالتسوية والحفاظ على السلم الأهلي في اصعب الظروف وأحلكها. وشهد هذا السياق أيضاً على قدرة الرئيس الشهيد رفيق الحريري استيعاب التناقضات التي كانت قائمة في الحكومات التي ترأسها، واجتراح التسويات لجعلها قادرة على اتخاذ القرارات وأهمها خطة إعادة الإعمار، وقدرته على تحييد الاقتصاد عن شهية التدخل السوري لفترة طويلة. ولا شك في أن الدور الذي لعبه الرئيس نبيه بري، وما يزال، في اجتراح التسويات المتعددة، وكان أهمها الحوار الوطني في العام 2006، والخروج بنتائج وتوافقات هامة حول المواضيع الخلافية.

وفي إطار قدرة النخب على تفكيك الخلافات والذهاب الى التسويات، كان اتفاق الدوحة محطة تؤكد على اهمية وضرورة التسوية، التي تشكل أثمان التنازلات فيها أقل بكثير من أثمان الحروب والنزاعات المسلحة.

وجاء إعلان بعبدا في عهد الرئيس ميشال سليمان عام 2012، ليسجل ايضاً في رصيد قدرة النخب على صياغة التسويات، وكذلك قدرة الرئيس في ذلك الوقت على ممارسة الدور الراعي لهذا الحوار، وتحقيق الانجازات على قاعدة مراعاة متطلبات التفاهمات الوطنية، ولكن ليس على حساب الدولة وسيادتها وسيرورة عمل مؤسساتها.

إلا أنه وللأسف، فقد أكد السياق السياسي الذي يجري منذ أربع سنوات تراجعاً كبيراً في القدرة على اجتراح التسويات في المجالات كافة. ويشهد لبنان حالياً تحولاً في ممارسة قواعد اللعبة السياسية في نظامه التوافقي، إن في داخل المؤسسات الدستورية، أو في المشهد السياسي العام، الأمر الذي يقوض المفهوم الذي قام عليه النظام السياسي في لبنان منذ الاستقلال والذي يشكل التوافق قاعدته الاساسية.

ويبدو أن اللعبة القائمة على ميزان القوى تسير باتجاه الإحلال مكان مفهوم التسوية، ما أدى إلى تعطيل عمل مجلس الوزراء، والإخلال بالمبدأ الدستوري في الفصل بين السلطات، والتسبب بأزمة دبلوماسية وسياسية واقتصادية مع المملكة العربية السعودية ومعظم دول الخليج، في حين يتخبط لبنان بأزمة مالية واجتماعية واقتصادية غير مسبوقة.

ويمكن القول إن الابتعاد عن منطق التسوية وتحكّم أحد الأطراف في قواعد اللعبة السياسية، جعل من السياسة الخارجية والدفاعية، وربما الاقتصادية قريباً، أداة لمشروع سياسي إقليمي، ولذلك فقد بات من أولوية الاولويات وضع هذا المشروع على طاولة الحوار.

إن الاحتكام إلى ميزان القوى الذي أدى إلى إضعاف الدولة ومصادرة قرارها في السلم والحرب، كما أدى إلى تهميش دور القادة السياسيين المؤمنين بالتسوية، لا يتوافق مطلقاً مع نظام المشاركة، وينذر بعواقب وخيمة على مستقبل الكيان ودوره وهويته، لاسيما أنه يجري في مرحلة تحولات اقليمية كبيرة، ستؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى مشهد جيوسياسي جديد.

وقد آن الأوان أن ينظر حزب الله الذي يتحكم بميزان القوى الحالي إلى أهمية التسوية، وأن يعود الى مفهوم العقد الاجتماعي اللبناني، وأن يجلس على الطاولة لمناقشة الاستراتيجية الدفاعية، والإجابة على الأسئلة المتعلقة بمدى توافق المشروع السياسي الاقليمي الذي يشكل رأس الحربة فيه، مع طبيعة الكيان اللبناني وأسسه لاسيما الانفتاح والحرية. وبالتالي، الإجابة على مدى الاستقرار الذي يؤمنه مشروعه للحفاظ على علاقات لبنان الدولية والعربية والنهوض بالاقتصاد الوطني وإعادة جذب الاستثمارات العربية والدولية.

آن الاوان للتخلي عن طموحات مكلفة على المستويات كافة، والاحتكام الى المبادئ الدستورية وآليات عمل النظام التوافقي، وإعطاء اولوية للإصلاحات وإطلاق التفاوض مع صندوق النقد الدولي لتفكيك الأزمة المالية والنقدية القائمة، وإعادة بناء اقتصاد وطني منتج لفرص العمل للشباب الذين صار طموحهم الحصول على تأشيرة لمغادرة البلاد.

*استاذ الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية- كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية