Advertise here

ميثاق غلاسكو "فن الممكن" وتحديات التنفيذ

15 تشرين الثاني 2021 18:00:01

إنعقدت قمة الأمم المتحدة لتغير المناخ COP26 في غلاسكو، على وقع أزمة الطاقة وإنطلاق الموجة الخامسة من Covid -19، وعلى وقع التحديات التي يواجهها كوكب الأرض، حيث سلط تقرير متحدون في العلوم عام 2020، الضوء على الآثار المتزايدة التي لا رجعة فيها لتغير المناخ، والتي تؤثر على الأنهار الجليدية والمحيطات والطبيعة والإقتصادات وظروف المعيشة البشرية، كما يوثق التقرير كيف أعاق COVID-19 القدرة على مراقبة هذه التغييرات من خلال نظام المراقبة العالمي.

بالطبع حققت القمة في اليومين الأولين، تقدماً في إتفاق أكثر من تسعين دولة على التخفيف من إنبعاثات غاز الميتان ووقف إزالة الغابات في حلول العام 2030، الأمر الذي يعكس درجة الوعي العالمي لمخاطر التغير المناخي التي ظهرت لدى المشاركين في القمة والبحث عن الحلول الجدية لهذا التحدي الذي يواجه البشرية، لكن غياب قادة الصين وروسيا والهند والبرازيل والسعودية عن المؤتمر، والانتقاد الذي وجهه الرئيس الاميركي لقادة روسيا والصين لعدم حضورهما القمة، والتحذير الذي اطلقه الامين العام للامم المتحدة لمخاطر عدم الالتزام بالتخفيف من ارتفاع درجة حرارة الارض، أظهرا مدى الابعاد الجيوسياسية والخلافات العميقة حول مواجهة هذه المخاطر والسياسات والاجراءات المطلوبة لتنفيذ ما اتفق عليه في معاهدة باريس 2015، واهمها العمل على الحد من ارتفاع درجة حرارة الارض الى حدود 1.5 درجة مئوية بالمقارنة مع مرحلة ما بعد الثورة الصناعية. وابرز هذه الخلافات ظهر في عدم توقيع الصين وروسيا على اتفاقية تخفيض انبعاثات غاز الميتان نظراً للخلافات العميقة في هذه المسألة، كما أن لروسيا والصين والهند نظرة مختلفة حول بناء نظام عالمي لاحتساب نسبة الكربون. ويبدو أن السؤال المتعلق بمن يتحمل الكلفة في ظل التردد الواضح في التزامات الدول المتقدمة التي تقررت في مؤتمر باريس وفي العام 2020، يقع في صلب اولويات الدول النامية والضعيفة، التي تطالب بأن تتحمل الدول الصناعية كلفة الخسائر الناجمة عن الانبعاثات التي تسببت بها هذه البلدان. أما الدول المنتجة للنفط والغاز فإن هواجسها الاساسية تتعلق بموقع ومصادر الطاقة الاحفورية والاستثمارات في مرحلة التحول الى الطاقة النظيفة، والمشهد الجيوسياسي الجديد وتأثيره على دول اوبك+. وتتطلع الصين في سياق التزاماتها في الحد من الانبعاثات الى متطلبات التنمية وتحدياتها في العقود القادمة وتأثير ذلك على موقعها الاقتصادي العالمي ومستوى النمو للاقتصاد الصيني وكلفة هذا التحول، أما روسيا القلقة ايضاً على موقعها الجيوسياسي في سوق الطاقة المتجددة، فانها تتطلع الى انتزاع الاقرار بالطاقة النووية كطاقة خضراء حيث سيسمح لها ذلك وإنطلاقاً من قدراتها المتقدمة في هذا المجال من احتلال موقع متقدم في السوق العالمي للطاقة المتجددة. هذه القضايا حضرت بقوة في نقاشات القمة من خلال وفود الصين، روسيا، الهند، وبالتالي تمكنت الصين والهند في اللحظات الاخيرة ونظراً لقاعدة التوافق والاجماع في القرارات من ادخال تعديلات جوهرية على حزمة "ميثاق غلاسكو" وذلك حول قضية مصادر الطاقة الاحفورية

ويمكن القول أن الدول التي شاركت في القمة انقسمت في توجهاتها وخياراتها الى ثلاثة اتجاهات: الدول الصناعية، الدول المنتجة للنفط والغاز، والدول الفقيرة المتأثرة بالتغير المناخي، ويبدو أن قاعدة الاجماع والتوافق لم تساعد هذه الدول في تحقيق احد اهدافها وهي انتزاع التزامات حقيقية من الدول الصناعية بحجم وكلفة التحول نحو الطاقة النظيفة. ولعل ما صرح به ألوك شارما، رئيس المؤتمر، إنه "يأسف بشدة" لما انتهى إليه المشاركون في المؤتمر من تغييرات أدخلوها في اللحظة الأخيرة في الصياغة في ما يتعلق بالفحم. وفي رده على موقف الدول الضعيفة، التي عبرت عن غضبها من التغييرات التي طرأت على نص الاتفاق، قال "أعتذر عن الطريقة التي جرت بها هذه العملية وأتفهم خيبة الأمل الشديدة، لكني أعتقد كما لاحظتم أنّ من الضروري أن نحمي هذه الصفقة".

بالطبع لم تكن المشكلة منذ مؤتمر باريس في العام 2015 محصورة في الالتزامات المعلنة على لسان قادة الدول أو ما صدر من التزامات في العام 2020 ولن تكون فيما تضمن ميثاق قمة غلاسكو، حيث اكد معظم القادة الذين حضروا القمة والذين لم يحضروها على خيار الحياد الكربوني، ولكن المشكلة تكمن بالالتزامات الفعلية والسياسات التي تقود الى ما اتفق عليه في قمم المناخ، حيث تبخرت معظم الالتزامات التي اعلن عنها سابقاً، وذلك على عتبة تضارب المصالح الوطنية مع المصالح العالمية وكذلك التأثير البالغ لمجموعات الضغط الذي تمثله الشركات التي تستثمر في الوقود الاحفوري والفحم الحجري في سياسات الدول المنتجة، وبالتالي لم تتحسن احوال المناخ، بل على العكس ادى التحلل من هذه الالتزامات إلى نتائج كارثية في السنوات التي اعقبت مؤتمر باريس، وهذا ما اظهره التقرير الذي اعدته شبكة هيئة الأرصاد الجوية العالمية عن حالة المناخ العالمي في العام 2019، اي بعد اربع سنوات على مؤتمر باريس، "حيث أن العلامات الفيزيائية لتغير المناخ، مثل زيادة حرارة الأرض والمحيطات، وتسارع ارتفاع مستوى سطح البحر وذوبان الجليد، ساهمت في جعل عام 2019 ثاني أكثر الأعوام دفئًا على الإطلاق. ويوثق التقرير الآثار المتزايدة لأحداث الطقس والمناخ على التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وصحة الإنسان، والهجرة والنزوح، والأمن الغذائي، والنظم الإيكولوجية البرية والبحرية".

وفي آخر تقرير صادر عن اللجنة الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، أكدت في تقييم جديد عن حالة المناخ ان الحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى 1.5 درجة مئوية، يتطلب تغييرات سريعة وبعيدة المدى وغير مسبوقة في جميع جوانب المجتمع. ومع الفوائد الواضحة للناس والنظم البيئية الطبيعية، فإن الحد من الاحترار العالمي إلى 1.5 درجة مئوية مقارنة بـ 2 درجة مئوية، يمكن أن يسير جنبًا إلى جنب مع ضمان مجتمع أكثر استدامة وإنصافًا.

لا شك في أن قمة المناخ في غلاسكو انتهت بـ"خطوات إلى الأمام مرحب بها، ولكن ذلك ليس كافياً" بحسب ما صرح به الامين العام للامم المتحدة أنطونيو غيريتس . وأقرت مسودة الاتفاق بأن الالتزامات الحالية لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري التي تسبب ارتفاع درجة حرارة الكوكب ليست كافية، وطلبت من الدول وضع تعهدات مناخية أكثر صرامة في العام المقبل، بدلاً من كل خمس سنوات. كما أن التوازن الذي كان من المفترض ان يظهر في الميثاق النهائي بين الدول الصناعية والدول المنتجة والمصدرة للنفط والدول التي تتأثر بالتغير المناخي اي الدول النامية، جاء محبطاً لآمال هذه الدول التي اعتبرت أن حجم الاموال المخصصة سنوياً عند عتبة 100 مليار سنوياً، تبقى اقل بكثير من الاحتياجات الفعلية للتكيف مع المناخ والتي قد تصل في العام 2030 الى 300 مليار دولار. وبالتالي جاءت النتائج على قاعدة "فن الممكن" وعلى وقع ميزان القوى الذي تمثله الصين وروسيا والهند والدول المنتجة للنفط والغاز.

وفي النهاية، ثمة سؤالان مطروحان على قادة العالم الاول بتلخص بامكانية توفر الارادة على ايجاد التسوية بين المصالح الوطنية والتعامل مع التغير المناخي كقضية عالمية تهدد مستقبل البشرية، وبالتالي الالتزام الفعلي بالتخفيف من الانبعاثات مهما كانت النتائج الجيوسياسية والاقتصادية، والثاني يتعلق بتوفر الارادة لدى الدول المتقدمة على الالتزام بتحمل اعباء التحول نحو الطاقة الخضراء وكلفة التغير المناخي. في غياب الاجوبة الواضحة على هذين السؤالين، يصعب التكهن بتحقيق نتائج تغير المعطيات التي وردت في التقارير العلمية كافة، والتي تشير الى أن البشرية مقبلة على تحديات كارثية.