Advertise here

السلفة الثقافية

06 تشرين الثاني 2021 19:16:23

لا يستطيع أي إنسان أن يخاطب إنساناً آخر، بدون "سلفة ثقافية"، يقدّمها له مسبقاً قبل مخاطبته، وقبل الحديث معه. ولا يستطيع أي موظف أن يؤدي دوره في عمله، دون أن تظهر "السلفة الثقافية" المسبقة التي تكتنف عمله، فتصير له مثل إطار لوحة، مثل برواز ملكي ، أو مثل "لوغو"، أو مثل وسام، أو مثل نيشان، يجعلك تتعرّف على نوعية هذا العمل الذي يقدّمه. ولا يستطيع أي صانع في صنعته أن يصنع أي شيء، ابتداءً من النصّ والقصيدة، وصولاً إلى اللوحة والعمل المجسّم، وحتى صناعة الثوب والرغيف والطبق، دون أن يقدّم لأعماله سلفةً ثقافية شفّافة للغاية، تجعلك تقول في سرّك: يقرأ الموضوع من عنوانه.

"السلفة الثقافية"، هي المقدّمة الأولى للشعراء والأدباء، وللروائيين، ولكتّاب المسرح والسينما. وهي أيضاً المقدّمة الأولى لكل من يتبوأ منصباً أو مركزاً، من أسفل البنيان الاجتماعي والسياسي، حتى رأسه. بمعنى آخر: من قاعدة الهرم، وحتى أعلى الهرم. 

السلفة الثقافية هي أيضاً وأيضاً، المقدّمة الأولى للتخاطب بين القادة. للتخاطب بين الدول. هي المقدّمة الأولى لكل خطابٍ دبلوماسي، ولكل خطابٍ عسكري، ولكل خطاب إداري، ولكل خطابٍ وزاري. ولكل خطاب رئاسي.

 السلفة الثقافية، هي مقدّمة كل موضوع. هي مقدّمة كل بحث. هي مقدّمة كل صداقة. هي مقدّمة كل عداوة. هي مقدّمة كل صلح. هي مقدّمة كل حرب. يظهر فيها عمق التجربة، أو ضحالتها. يظهر فيها عمق التفكير، أو ضحالته. تظهر فيها رتبة العلم. ودرجة التأدّب. كما تظهر فيها الأصالة والنباهة وحسن الذكر. وحسن المنبت. وكذا محاسن المرء وماؤه، ودرجة دماثته. وكثرة أو قلة حيلته، في المبادرة. وفي الاستقبال أو الانصراف. أو المباشرة، أو التأجيل، على حدٍ سواء.  

 السلفة الثقافية، إنّما هي رصيد الإنسان من جميع ألوان المكرمات. إنما هي رصيد الإنسان من جميع أنواع الثقافات. إنما هي اللبنة الأساس في حياة المرء، كائناً من كان هذا المرء. وكائناً ما كان شأنه في الحياة.

السلفة الثقافية، إنما هي الهوية الشخصية والهوية الوطنية والهوية الإنسانية، والهوية الثقاقية والهوية العلمية، حين تكون البطاقة في الجيب. وحين تكون (السيرة الذاتية c.v) في القرص المدمج، أو في الكمبيوتر المحمول، أو على "الإيمايل"، أو في أحد أدراج المكتب. أو فوق رفوف الخزانة، أو في الجارور. أو في الخزانة السرّية لعملاء السي. إي. إيه.

السلفة الثقافية، هي خبيئة المطالعة التي يقدّم بها المرء نفسه. لعائلته. للناس. للمجتمعات. هي خبيئة المطلع الطليّ في المعلّقات، وفي مقدمات النفائس الأدبية والعلمية. هي حبيسة الصدور العالية. في القامات العالية، التي تترفع عن الصغائر. هي الحلل النفيسة، التي يتزيّا بها المرء. التي يتزيّن بها المرء، والتي هي نفسها  يتجمّل بها، حين لا يبقى له ما يتجمّل به إلّا الصبر. بهذا المعنى يكون "صبر أيوب" سلفةً ثقافية لكل الصابرين على المكاره في الأرض.

 إذاً، ليست "السلفة الثقافية" وقفاً على المتأدبين، ولا على كتّاب المدوّنات، والصحائف. ولا على أهل الديوان، ولا حتى على المدوّنين. ولا على أهل الوجاهة والمقدّمين.

 السلفة الثقافية، ليست وقفاً على أهل الثقافة وحدهم دون سائر الناس. إلّا إذا كانت الثقافة تعني، كما يقول الجاحظ:  "الأخذ من كل شيء بطرف. "عندها نرى الثقافة، تتنكّب أحمالها من كل المنابت، وتوزّع صدقاتها سراً على جميع الناس. فيأخذ منها كل واحد حظّه، وما استطاع أن يتنكّبه ويحمله بين جوارحه، فيكون له".

السلفة الثقافية كان من منابتها، قبل الأكاديميّات والجامعات؛ رجال البيوتات عند العرب. بيوتات الشعر. بيوتات الحكمة والحكماء. بيوتات الفلسفة، وأهل العقل، وأهل الدّين، الذين أشربوا في قلوبهم الألوهة والحب والرقة والذوب. فرادى وجماعة وطوائف ومذاهب، حتى صاروا مدرسة، وأهل شريعة ورسالة.
 
 السلفة الثقافية، تراثٌ إنساني أصيل، ولا تأتي عرضاً للناس. ولا تصيبهم، "إصابة الأرنب للعصا"، بل هي تسعى من أبواب مدرسة عريقة في التأديب والتأدب، على قاعدة من الحديث: "أدّبني ربّي فأحسن تأديبي". تذوب في المرء، فتغتسل روحه بها، وتتشرّبها نفسه، وتغتذي بها عروقه، حتى ليبدو بها، لا كما كان في أول أمره.

السلفة الثقافية تذهب في الأنساغ، حتى لتراها تشفّ في الوجنتين، وفي العينين، وفي أديم الوجه، وفي الشفتين، وفي اللسان.

السلفة الثقافية، تُرى بالعينين وتُسمع بالأذنين، وتقرأ بالقلب. هذه هي مساكنها، هذه هي دروبها: في رأس كل خطاب هي. وفي مطلع كل قول. وفي افتتاحيات الصحف، والصحائف،  والأوراق، وشتّى أنواع الأضابير والكتب.

 السلفة الثقافية بصمة المرء المميّزة له عن الآخرين. بصمةً خفية، لا تحتاج إلى مجهر. لا تحتاج إلى مختبر. وشهادتها من الناس، عموم الناس. لأنهم بها يُعرفون الغثّ من السمين، على قاعدة من عمود الذوق. على قاعدةٍ من عمود التذوّق. على قاعدة من عمود الإحساس الفطري لدى عموم الناس.

هل نقول إنّ السلفة الثقافية فيها من الموهبة. فيها من النبوغ المبكر، فيها من القيافة. فيها من العرافة. فيها من قراءة الكف، ومن علم النجوم. فيها من قراءة الطالع. فيها من الكشف. فيها من التلقين. فيها أثرٌ من علم مكتوم، يصنع حاضرِي الجواب من عموم الناس، تماماً  كما يصنع عموم النابهين. يصنع اليقَظَة من الناس، حين يكونوا غافلين مغفلين.

 ألهذا قال الشاعر الجاهلي: إذا أمرتهم أمري بمنعرج اللوى/ فما استبانوا الرشد إلّا ضحى الغد.


*أستاذ في الجامعة اللبنانية

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".