Advertise here

مع أولى زخات المطر... عندما تعرّت الأشجار

03 تشرين الثاني 2021 13:17:10

وأكملنا رحلتنا مع أولى زخات المطر... لكن الأسئلة لم تغادر ذهني... أليست هي التفاحة التي تسببت بعقاب آدم؟ أليست الأفعى الغاوية؟ أليست حواء المغرّر بها والمغرّرة بآدم؟ ...هل لو حققت نظريتك يا أينشتاين قبل الرحيل لكان الزمن عاد إلى حيث تكمن الأجوبة كلّها؟... آه من وجع التفكير!... يا إلهي!
«أين شردتِ بأفكارك؟ أنظري هناك!» قالت أولى زخات المطر...
«شردت إلى حيث لا إجابة عن أسئلتي، إذ إنّ الحكمة ربما في معرفة الحدث الكليّ من دون التفاصيل...» ونظرت هناك، هناك حيث أشارت... 
«ما الذي يحدث هناك؟ لا أكاد اشعر بالروح إلا ّ قابضة على أنفاسي... لمَ تتساقط هذه الأوراق وهي خضراء نضرة؟؟؟ والشجرة تبكي، حتى الأشواك تبكي على ما يتساقط من ورق... هي ليست صفراء أو بنية، بل خضراء نضرة... كان الموت حتى اللحظة منطلقًا جديدًا للحياة، لحياة تتحضّر في رحم الأرض، حتى في لبّ نيرانها، ما الذي تغيّر هنا؟»

قلت ما قلت وصوتي في غربة عني، لم أعرف إذا كنت أنا الصوت أو أنا الصدى، أو أنّه الوهم الذي يرتع في أعمق مخاوفي، أو هواجسي التي تملّأها الأشجان التي احتضنت ثواني وساعاتٍ وثمراتٍ من حياتي... آلمني الموت في حياتي، لكنّ انحناء الأوراق لتلتحم بالأرض خضراء نضرة ميْتة، والشجرة تحنو عليها أمًا تريد أن تنعش رضيعها مع آخر رمق من حياته علّها تحصل المعجزة ويعود إلى حضنها يافعًا معافى، أدمى كل ما فيّ من روح، وما فيّ من أثير، وما فيّ من جِنانٍ وجَنان...

«أما من إجابة؟!» سألتُ زخات المطر...

«بلى. انظري هنالك، حيث تلك السنديانة الخضراء المترامية الأطراف... تلك تقف شامخة لا من تكبّر أو كبرياء، لكنها شامخة ترقب السماء، تناجيها، تسألها، تملّكها أعمق مخاوفها لتشعر بالأمان، تسبّحها ليل مساء. وهي في شموخها، في صلاتها، لم تمنع النور عمّا يحيط بها، بل ساعدته على الارتقاء، وساعدت ما لم يعرف الطريق على الصلاح، سقته من مياه النهر الذي منه تنهل، وقرّبت إليه سبيل غيره من الأنهار، وترفّقت ببراعمه، فأمدّتها بالغذاء حتى وإن كانت من الطفيليات... 
رأت في نفسها القوة فتواضعت، رأت في نفسها القدرة فحَنَت، رأت في نفسها النور فسَنت، رأت في نفسها الغنى فافتقرت، رأت في نفسها التمايز قاِتّحدت، رأت في نفسها الحنين فتشوّقت، رأت في نفسها الإدراك فأيقنت، رأت في نفسها المعراج فسلكت، رأت في يمينها الحق فأنصتت، رأت في أعماقها الفوضى فسكنت، رأت في نفسها الوجود فأحبّت، رأت في نفسها الأنا فتماهت...

لذلك هي لا تزال على شموخها، ثابتة في مناجاتها، متنعّمة بخيراتها، متصلة بوجودها، منسجمة وصورها، عينها تنهل من معين اليقين، ويدها تصله بما يحتاج إلى معين...

أمّا هذه الشجرة، فاشرأبّت من كبرياء وكِبر، وعنجهية وجبر. تناست صلاتها، وتناست مسؤولياتها، وتناست كرم من أكرمها لتكرم المحتاج، وأعزّها لتعزّ الضعيف، وقدّمها لتقدّم الحق، وأغناها لتغني الفقير، وحنا عليها لتحنو، وعلّمها لتكون نبراس يقين... فساء حالها وفعلها، وسيرتها ومسراها، وتخلّفت عن معراجها، وهبطت في درك ما بعده نجاة، وأماتت ما حولها، منعت عنهم النجاة والهواء والحياة وحتى الدعاء... لم يبق حولها وردة، ولا حتى طنين نحلة، واكتفت ببعث الأغصان والأوراق، معتقدة أنها خالدة بفناء غير وجودها، ولو كان من الأبرياء.

وهذه عاقبة المتكبّر المتجبّر الذي يختال فرحًا، ويشرّع لذاته ما يحرّمه على كلّ آخر، وويعيث في الأرض فسادًا... يفقد أوراقه الخضراء، ويتألم لفراق، ويحنو بعد صدور العقاب، ويدمع بعد فوات الزمان»

«أهذا الحال وهي شجرة؟!»
ضحكت زخات المطر وتراقصت وعزفت على أوتار الألوان والبتلات والنسمات، كأن دهشتي أطربتها أو لعله جهلي... «هذا حال كل موجود، وأنت من هذا الموجود بعد أن كان... شرعة الكون واحدة... لكنّ ابن آدم يتغافل عن أنه من طين، أو يتجاهل أنه ينتمي إلى هذه الأرض انتماءه إلى عالم النور، حيث تنظر روحه دومًا وتُنشد... وأنه لعلّة عقله مسؤول مسؤول مسؤول...»

«مسؤول عن ماذا؟»

«مسؤول عن كل فعل يباشره، وعمل ينهض به، ونية يعقد العزم عليها، عن كل وردة تذبل، وكل قلب يذوي، وكل مقلة تدمع، وكل رحم يحزن... مسؤول عن كل عبث بالأنهار، وبالتلال، وبالجبال... مسؤول عن كلّ انبعاث للسموم، وتكدّس للهموم، وإبحار في غياهب الوهم وسوء الظنون... مسؤول عن إبداع البسمة، والنسمة، والأمل... مسؤول عن بعْث في الروح المحبة، ونشر في الأفق المودّة، وتمتين بين الحنايا الحنين... مسؤول عن سماع الصمت في ضجيجه، وعزف السلام في قرع طبوله، ومؤاخاة الآخر في مرآة الأنا في كل معراج ارتقاء، وتلمّس وحدة الإنسان في ضوضاء الكون وضيائه!... 

نعم...  مسؤول هو عن صناعة الجنة من رحم الطين، جنة تشكّلها يداه ومقاصده ومسالكه! وعندها سينعم بجنتين، جنة الأرض وجنة السماء؛ جنة يبدعها، وجنة يُثاب بها!

ولكن... ما لنا ولما أيقظه فيك من فضول تعرّي هذه الأشجار؟ هاتِي يدك نتابع رحلتنا مع أولى زخات المطر...».

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".