درّاجة الموت

26 تشرين الأول 2021 21:25:24 - آخر تحديث: 26 تشرين الأول 2021 21:25:25

 منظرٌ مؤلم نراه كل يوم، عند الساعة السابعة صباحاً، أو قبلها بقليل. 

مجموعةٌ من أطفال المدارس، وعددهم ربما يتجاوز الستة أطفال، معلّقين على ظهر موتو، مثلما تعلق ثيابهم في الهواء،  على حبل غسيل.

ظاهرةٌ جديدة على الآباء والأمهات في المدن والقرى اللبنانية، استجدّت مع افتتاح هذا  العام الدراسي الجديد. 

 ما رأيت في حياتي ستة أطفال، على ظهر سائق "موتو"، في طريقهم إلى المدرسة التي تبعد عنهم الكيلومترات صعوداً وهبوطاً وتعرجاً، بين السيارات في الطرقات، إلّا في  هذا العام. 
 
 أخطر ما في الأمر، بل أبشع ما في الأمر، أنّ صاحب الدراجة النارية، قد شدّ على ظهر مقعده خشبةً طويلة، ربطها بأمراس، وتتسع لستة أطفال أو تزيد عنهم بقليل، تحسباً لطفل، تتطفل أمه على الدرّاج أن يقلّه معه في الطريق.

 حزم الدرّاج حقائب الأطفال بكيسين، علّقهما على المقود، يميناً ويساراً، وانطلق بأطفاله في دراجة الموت، إلى المدرسة الرسمية، أو إلى المدرسة المجّانية، أو إلى رياض الأطفال ليخفّ الحمل على الأهل، فلا أطفال في البيت، ولا ما يحزنون.

كثيرةٌ هي "درّاجات الموت". تباشر عملها منذ الصباح الباكر لنقل الأطفال إلى بيوت التربية،  أو إلى دور الحضانة، أو إلى حادقات الأطفال، أو إلى المدارس.

أبٌ لخمسة أطفال، و"سادسهم سيأتي بعد صيف" ،كما يقول محمود درويش. تراه وأطفاله معلّقين على خشبة الدراجة في الهواء. يسرع بهم، إلى المدرسة قبل أن يقرع الناظر الجرس، بين الزحمة، وفي الزقاقات، وفي الأسواق.  يزحمهم العابرون. ويزحمهم السائقون. ويزحمهم الطائشون.  ويزحمهم المتطفّلون. ويراهم الشرطي على إشارة السير الناجية من "شغب الثورات"، فيبتسم لهم، ويتمهّلهم قليلاً حتى يأذن الضوء الأخضر، فيأذن لهم بالمرور.

أطفال ك"فزعات" العرازيل، والشبابيك، والبساتين، والحقول. أطفالٌ كبراعم الزهور، علقوا على عود رقيق، يطيرون في الهواء، إلى أبواب حادقات الأطفال، إلى رياض الأطفال، إلى مدارس الأطفال، بلا حمايةٍ من سقوطٍ مفاجئ، وبلا أي مفاجأة، على الطريق.

 لم تعد هناك من سيارة عند الأهل، يقلّون بها أبناءهم إلى المدرسة. ركنوا "حمار النزهات"، إلى الرصيف منذ اشتعال أزمة البنزين، فعلاها الغبار، ولم يعد بإمكانهم غسلها، فكيف يستطيعون بعد تشغيلها وملء خزانها بالوقود؟ كيف يستطيعون تغيير دولابها، وكيف يستطيعون تشغيلها من جديد.

تخلّت وزارة الداخلية عن دورها. فلم تعد تراقب الآليات في سيرها، ولا تطلب إجازة السير. ولا دفتر القيادة. ولا دفتر الدراجة. ولا المسموح به، ولا غيره. صار غاية همّها أن تمرّ دراجة الموت بأطفالها إلى المدرسة، بلا حادثٍ أليم. بلا صباح مبكرٍ في التحقيق. بلا دم طفل يسيل في الطريق.

 غابت حقوق الطفل عن جميع أجندات جمعيات حقوق الطفل، وحقوق الأطفال. غابت حماية الأطفال عن المجتمعات كلها. سقطت الدساتير دفعة واحدة، من الأمم المتحدة، حتى آخر مخفر للشرطة يرعى تنفيذ حقوق الأطفال. يسهر على حماية الأطفال. في بيوتهم، في عوائلهم داخل المركبات، وعلى الطرقات.

 عامٌ دراسي يجرجر الأطفال الصغار إلى مدارسهم، مثقلٌ بالأزمات. فلا حليب لهم ولا "عروساً" من اللبنة. ولا "ترتين" من الزعتر. ولا قميص على صدرهم، ولا مريول مدرسة. ولا نعلة دافئة. ولا رعاية صحية: لا في المنزل، ولا في المدرسة الرسمية.

 نراهم كل يوم، يصرخون ويبكون ويدمعون وينهمرون. ينزلون عن حصانهم الخشبي، على أبواب المدارس الرسمية.

فاجأت المدارس الناس هذا العام، وهم في أسوأ الأوضاع. فالغلاء لا يرحم البلاد ولا العباد. والدولة تخلّت عن دورها في الرعاية والحماية وتقديم الخدمات.

 فلم تعد عندها طريق صالحة لسير المركبات، ولا لسير الدرّاجات، ولا لسير المشاة.

 أخرجت الحاجة الناس والدولة عن قواعد الرعاية والحماية. عن قواعد المراقبة وعن قواعد المعاقبة. فكل شيء يسيب على رسله في الطرقات. وكل الناس، تفلّتوا: أحوجهم اشتداد الحاجات على خناقهم، للخروج، كما الغريق مسربلين. بلا لياقة، ولا ما يليق.

 صارت أجهزة الدولة كلّها، تستحي من الناس، في تنفيذ القوانين التي تحفظ حقوقهم ومصالحهم. التي تحفظ حقوق الأطفال، وترعى شؤونهم. وترعى حمايتهم. صارت أجهزة الدولة مصابة بداء الشلل. بداء العماء. بداء التعامي عن الانتهاكات عن الأخطار. عن المخالفات، حتى لا تتعقّد الأمور مع الأهالي أكثر مما هي. وحتى لا يقع الناس أكثر فأكثر في المجهول.

 أطفال المدارس هذا العام، هم في أسوأ الأحوال. 

يذهبون إلى مدارسهم والأخطار تحدق بهم من كل جانب. صاروا بلا  حليب. بلا مريول. بلا "أوتوكار"  بلا ناظر مدرسة. بلا معلّم. بلا مربي. يخرجون من عذاب الأهل إلى عذاب المربّين، تحت ثقل الحاجات على أبدانهم النحيلة، مثل عصافير الغابات. يزقزقون كل صباح في الملاعب، ويصخبون ويبكون من شدة الهزال، ومن شدة الخوف، ومن شدّة الجوع.

 أطفال المدارس هذا العام، يقطعون اليوم عام الجوع إلى رياضتهم، على الحصان الخشبي، وجميع الهيئات الرعائية، والحمائية، والحقوقية، للأطفال تخبّئ وجهها بيدها، ولا تريد أن تنظر في وجوه الأطفال الباكية. 

 أيها المسؤولون في لبنان، إليكم صرخة طفلٍ هالكٍ  على دراجة الموت، كل صباح.  فكل كنوزكم وكل ثرواتكم، وكل جشعكم إلى اكتناز المال والثروات، لا تساوي دمعة طفل صغير، على دراجة الموت إلى المدرسة!


*أستاذ في الجامعة اللبنانية

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".