النيوليبرالية في مأزق.. ماذا عن مأزق الديمقراطية في العالم العربي؟
19 تشرين الأول 2021
13:41
آخر تحديث:19 تشرين الأول 202113:41
Article Content
تميزت الليبرالية السياسية بالإهتمام الشديد بمناقشة موضوع السلطة السياسية، سواء كانت سلطة الدولة أو الحكومة أو سلطة المجتمع أو سلطة الرأي العام. كذلك عرفت بمقولتها: إن العقل البشري قادر وحده على تحديد شكل الحياة الأفضل للإنسان، فهي تؤكد التسامح الديني والأخلاقي وسعة الأفق ورحابة الصدر في تقبل الرأي الآخر.. وهكذا تلتقي مع الديمقراطية على صعيد واحد، مع فارق أساسي هو ان الأولى طريقة في التفكير والثانية نظام سياسي من أنظمة الحكم
في مقابل طوفان ما تضخّه المؤسسات المالية والتنموية من نظريات ومفاهيم ذات مرجع مشترك هو النيوليبرالية، وفي زمنٍ يُراد فيه إقناعنا بنهاية زمن الأيديولوجيات، تبدو النيوليبرالية أيديولوجيا متكاملة تشتمل على نظرة شاملة للحياة والكون وتقدّم نفسَها على أنها "مذهب طبيعي جبري لا بديل عنه"، حسب عبارة مارغريت ثاتشر الشهيرة، بل هي عقيدة إيمانية لا تخلو من السحر إذ تبشّر بـ«اليد الخفية» التي تحرّك السوق.
منذ نهاية الحرب الباردة والنيوليبرالية هي الوجه الاقتصادي لنظام العولمة، وليس أبلغ تعبيرًا عن التلازم بين مذهب اقتصادي يُملي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تطبيقاته وقوة الولايات المتحدة العسكرية، من عبارات الصحافي توماس فريدمان: «إنّ اليد الخفية للسوق تحتاج إلى القبضة الحديدية للبنتاغون الأميركي و“همبرغر” ماكدونالد ليس بديلاً من منتجات “ماك دوغال”»، أكبر مصانع الأسلحة الأميركية.
لقد أوصلت هذه الآيديولوجيا عالمنا الى مأزق كبير في مجالات البيئة والإقتصاد والإجتماع. يصف إدواردو غاليانو في "إطلالة على الغسق في نهاية القرن" بتناغمٍ نادرٍ بين الدقة التوثيقية والخيال الأدبي الرفيع، فيقول: إنّ الأرض التي تدفننا أو تردعنا مسمومة. لا يوجد هواء، ليس هناك إلا اليأس. لا يوجد نسيم، ليس هناك إلا الروائح النتنة.لا مطر سوى المطر الحمضي. لا يوجد حدائق، هناك مرائب فقط. ليس هناك شركاء، لا يوجد إلا شراكات. هناك شركات بدلاً من الأوطان.
وتطرح سوزان جورج، عالمة اجتماع أميركية، مجموعة من الأسئلة، فتقول: لماذا نشأت النيوليبرالية من معزلها الأقلوي جدًّا لتصير العقيدة الطاغية في عالم اليوم؟ لماذا يستطيع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التدخّل كيفما شاءا لإجبار البلدان على المساهمة في الاقتصاد العالمي في شروط غير مناسبة؟ لماذا دولة الرعاية مهدّدة في جميع البلدان التي طُبّقت فيها؟ ولماذا تقف البيئة على حافة الانهيار؟ ولماذا يوجد هذا العدد من الفقراء، في البلدان الغنية كما الفقيرة، في وقت لم توجد فيه ثروات ضخمة أبدًا كمثل الثروات الموجودة الآن.
في هذا البحث حول أنظمة الحكم في العالم، سنحاول الإجابة على تلك الأسئلة في سرد أكاديمي لمفهوم الليبرالية كفكر، وهل جسدت الديمقراطية كنظام حكم ذاك المفهوم، ونلقي الضوء على النظام البرلماني وحسن تطبيقه – في ألمانيا كمثال، ونتوسع في مأزق النيوليبرالية مع النظام الديمقراطي وحقوق الإنسان وتداعيات تطبيق هذه الإيديولوجيا على البيئة ما قد يجر كوكب الأرض الى الكارثة المحتومة. وننهي بالتعريج الى نظرة بعض الباحثين حول معضلة الديمقراطية في الوطن العربي.
أولاً: تطور مفهوم الليبرالية والحكم الديمقراطي
1 - تعريف الليبرالية
الليبرالية هي طريقة في التفكير تدور حول الإنسان والسياسة أو حول الإقتصاد. والليبرالية الإقتصادية ترتبط بالمدرسة الطبيعية "الفزيقراط" التي تؤكد أن النظام الطبيعي الذي يتحقق بمبادرات الفرد التي تحدث التوازن بين الأسعار والإنتاج... وكان شعار هذه المدرسة "دعه يعمل دعه يمر" عند كل من آدم سميث ومالتوس وريكاردو. أما الليبرالية السياسية فهي تلتقي مع الإقتصاديين في الإهتمام بالفرد وحريته في آن معا وإن كان ذلك على مستوى سياسي هذه المرة.
والليبرالية على هذا النحو من انتاج القرنين الثامن والتاسع عشر في أوروبا، وإن كانت جذورها تمتد الى جون لوك في القرن السابع عشر، بل إن بعض المؤرخين يعود بها الى اليونان، فيتحدثون عن ليبرالية "قديمة" كما هي الحال عند بروتا جوراس أو ديقربطس أو غيرهما .. وذهبت الليبرالية السياسية "المحُدثة" - وفق كتاب جون مل (المرجع رقم8) – الى أن "السياسة صنعة أو فن وضعه الإنسان، والحكومة ليست أمرا طبيعيا وإن كانت أمرا ضروريا. أما الطبيعي فهو الحرية الإنسانية، فلا هي مكتسبة ولا هي منحة من أحد، والبشر متساوون جميعاً، وبالتالي فلا فئات ولا درجات من الموجودات البشرية يمكن ان تدّعي لنفسها الحق في أن تحكم على نحو طبيعي أو على نحو يفوق الطبيعة"..
ونبّه جون ستيورت مل في كتابه الى مشكلة "طغيان الأكثرية" وسيطرة الرأي العام وضرورة التعرف الى الحدود التي تقف عندها سلطة المجتمع حتى لا تمس الحرية الفردية. وانتهى الى هذا التعريف الذي يقول فيه: الغاية الوحيدة التي تسوّغ للناس أفرادا أو جماعات، التدخل في حرية الفعل لأي عضو في المجتمع هي حماية انفسهم منه، ومعنى ذلك أن الغرض الوحيد الذي تستخدم فيه السلطة بطريقة مشروعة ضد الفرد هو منعه من الإضرار بالآخرين أو إيذاء غيره.
2 - تعريف الديمقراطية:
تتكون كلمة ديمقراطية من مقطعين مستمدين من اللغة اليونانية: Demos بمعنى الشعب، Cratos بمعنى حكم أو سلطة، أي ان الكلمة تعني حكم الشعب أو سلطة الشعب.
تعني الديمقراطية مساهمة أكبر عدد من المواطنين في ممارسة السلطة. وإذ تقوم الديمقراطية على ركنين أساسيين هما الحرية والمساواة فإن مفهومهما ليس واحداً، حيث تميل بعض النظم الديمقراطية الى اعطاء الأولوية للحرية، بينما تضع نظم اخرى المساواة في المقام الأول. ومن هنا ظهر مفهومان للديمقراطية: المفهوم الليبرالي التقليدي والمفهوم الماركسي الإجتماعي... وهناك عدة صور للديمقراطية هي: الديمقراطية المباشرة والديمقراطية النيابية والديمقراطية شبه المباشرة والديمقراطية شبه النيابية.
يقول فرنسيس فوكوياما: "في البداية، لم تكن الليبرالية تشتمل بالضرورة على الديمقراطية. فالليبراليون الذين أيدوا التسوية الدستورية لعام1689 كانوا من أغنى أصحاب ا?م?ك في إنجلترا، وكان برلمان تلك الفترة يمثل أقل من 10 في المائة من مجمل السكان. وكان العديد من الليبراليين الك?سيكيين بمن فيهم ميل، من أكثر المتشككين في قيمة الديمقراطية: فقد كانوا يعتقدون أن المشاركة السياسية المسؤولة تقتضي التعليم وامت?ك حصة في المجتمع – أي ملكية العقارات. وحتى نهاية القرن التاسع عشر، كان الحق في ا?نتخاب يرتبط بمتطلبات خاصة بالملكية والتعليم في جميع أنحاء أوروبا تقريبا. وبالتالي، مثّل انتخاب أندرو جاكسون كرئيس للو?يات المتحدة في عام 1828 وقراره ال?حق بإلغاء حيازة ا?م?ك كشرط للحصول على الحق في ا?قتراع، على ا?قل بالنسبة للذكور البيض، انتصارا مبكرا ومهما لشكل أكثر تماسكا من المبادئ الديمقراطية".
أ – الديمقراطية الليبرالية
الديمقراطية الغربية الليبرالية: هي صورة من صور الديمقراطية التي تضع الحرية في المقام الأول. وفي هذا المفهوم تعني حكومة الشعب توفير الحرية للشعب، لكل فرد من أفراده لتنمية نفسه، إن الحرية هي التي تسمح لكل الآمال أن تتحقق بما في ذلك الأمل في المساواة. وفي ظل الديمقراطية الليبرالية تتمتع الحرية بحماية على مستويين: على مستوى نشاط الحكومة وعلى مستوى علاقة الحكام بالمحكومين.
فعلى مستوى النشاط الحكومي والبرلماني تقبل الديمقراطية الليبرالية أن تؤدي الحرية الى اختلاف الآراء فيما يتعلق بالمسائل العامة. ويؤدي هذا الى وجود أغلبية وأقلية. واذا كانت الأغلبية تتولى الحكم اليوم فإنها لا تعدم الأقلية، وإنما تعطي لها فرصة البقاء وفرصة أن تتولى الحكم اذا تمتعت بالأغلبية في المستقبل. ومعنى ذلك أن الأغلبية تحترم رأي الأقلية المعارضة وتمكنها من ممارسة كل حقوقها السياسية مثل الحصانة البرلمانية وحق التعبير عن رأيها والإشتراك في اللجان البرلمانية. بل أن النظام الإنكليزي القائم على نظام الحزبين السياسين، يشرك المعارضة في القرارات المصيرية المتعلقة بالدولة.
ب – الديمقراطية الماركسية أو الإجتماعية
منذ أثّر الفكر الماركسي في النظم السياسية ظهر مفهوم آخر للديمقراطية هو الديمقراطية الإجتماعية. هذه الديمقراطية التي تنبأ بها جان جاك روسّو ثم طورها كارل ماركس وتلاميذه توصف من قبل لبعض بالديمقراطية المستبدة أو التحكمية La democratie autoritaire وتوصف من البعض الآخر بالديمقراطية الإجتماعية أو الشعبية.
وهذا البحث لن يتطرق الى هذا المفهوم وسيكتفي بالمفهوم الأول نظرا لأفول مجالات تطبيق الديمقراطية الماركسية بأنفراط عقد دول الإتحاد السوفييتي واقتصار اعتماده في القليل من دول العالم اليوم.
3 - النظام البرلماني: Le Regime parlementaire
يقوم النظام البرلماني على أساس الفصل المرن بين السلطات مع وجود تعاون وتوازن بن السلطتين التشريعية والتنفيذية. ويوجد بالنظام البرلماني رئيس دولة والى جانبه رئيس للوزارة، رئيس الدولة يسود ولا يحكم أما رئيس الوزارة فيتولى مسؤولية الحكم، ويتولى البرلمان عادة من مجلسين. وتتميز العلاقة بين السلطتين بالتعاون والرقابة المتبادلة مما يجعل النظام متسما بالتوازن. ويبدو التعاون في امكان مساهمة السلطة التنفيذية في عملية التشريع؛ إذ بينما يحظر على الرئيس الأميركي اقتراح القوانين، يجوز للحكومة في ظل النظام البرلماني أن تقدم مشروعات قوانين للبرلمان، بل أكثر من 90% من التشريعات في النظم البرلمانية ذات أصل حكومي. أما الرقابة المتبادلة فتظهر في حق الحكومة في حل البرلمان، وبإمكان مساءلة الحكومة أمام البرلمان عن طريق السؤال والإستجواب وطرح الثقة بالحكومة وسحب الثقة منها.
ويشرح الدكتور سعاد الشرقاوي كيفية تحقيق التوازن ما بين السلطتين - تحت عنوان "خصائص النظام البرلماني" بقوله:
أ – مسؤولية الوزارة: تُسأل الوزارة أمام البرلمان مسؤولية جماعية تضامنية ومسؤولية فردية، وتعتبر المسؤولية التضامنية عن السياسة العامة للحكومة هي أهم ما يميز النظام البرلماني.
ب – التوازن النظري بين السلطات: وهذا التوازن هو نتيجة المساواة بين السلطتين، كما انه نتيجة لتبادل المعلومات والتعاون وتبادل الرقابة والتأثير. فالسلطة التنفيذية لا تتدخل في اختيار أعضاء البرلمان أو في تنظيمه الداخلي ولكن للسلطة التنفيذية حق دعوة البرلمان للإنعقاد وحق فض دورات انعقاده. ومن ناحية أخرى، للبرلمان حق مساءلة الحكومة عن طريق الأسئلة والإستجوابات وطرح الثقة بالحكومة وسحب الثقة منها. وفي مقابل ذلك لرئيس الوزراء او لرئيس الدولة حسب الأحوال حق حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة.
4 - النظام السياسي في ألمانيا - نموذجاً
جمهورية ألمانيا الاتحادية هي جمهورية فيدرالية ذات نظام ديمقراطي ضامن للحريات. لكن ما يتضمنه دستورها اليوم تطلب جهداً كبيراً في الماضي لانتزاعه.
الدستور في ألمانيا، أو ما يسمى بالقانون الأساسي، يحمي حريات الفرد ويضمن كرامته ويؤكد على معاملة جميع المواطنين بمساواة أمام القانون، بغض النظر عن العرق أو الأصل أو اللغة أو الديانة. علاوة على ذلك، يُخضع الدستور نفوذ الدولة لسيطرة مُحكمة من خلال مبدأ تقاسم السلطات.
من خلال القانون الأساسي، استقت ألمانيا دروسها من كارثة "الرايخ الثالث"، وهي فترة دكتاتورية الحزب القومي الاشتراكي بزعامة أدولف هتلر بين عامي 1933 و1945. خلال تلك الفترة، قُتل الملايين من البشر جراء الحرب العالمية الثانية التي أشعلتها ألمانيا.
بعد عام 1945 قامت في ألمانيا - أو على الأقل في جزئها الغربي - ديمقراطية جديدة.. لكن منذ عام 1990، تم توحيد شطري ألمانيا وإنشاء الجمهورية الاتحادية. وتم تحويل الدستور الانتقالي إلى دستور شامل لكل أنحاء ألمانيا، وعليه بُني النظام الديمقراطي الضامن للحريات في البلاد.
تم إنشاء دولة فيدرالية ذات ثلاثة مستويات: الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات تتشاطر النفوذ السياسي. وفيما تترك الولايات للحكومة الفيدرالية صلاحيات مركزية، إلا أنها تساهم في صياغة القوانين. لكن في أوجه أخرى، تقوم الولايات بصياغة قوانينها بمفردها. أما المستوى الثالث والأدنى فهو البلديات. كما تم إقامة عدد من الحواجز في وجه التيارات المتطرفة والمناوئة للديمقراطية، إذ يتيح مبدأ "تحصين الديمقراطية" فرض حظر على الأحزاب المناوئة للدستور. فعلى سبيل المثال، تم حظر "حزب الرايخ الاشتراكي" النازي عام 1952، فيما حُظر الحزب الشيوعي في ألمانيا عام 1956. إضافة إلى ذلك، لا يمكن لأي حزب أن يدخل البرلمان (البوندستاغ)، حتى يتجاوز حاجز الخمسة في المائة من نسبة أصوات الناخبين. تم إقرار هذه القاعدة من أجل منح الاستقرار للبرلمان.
تم تعيين حارس لمبادئ تقاسم السلطات والحقوق الأساسية والديمقراطية، ألا وهو المحكمة الدستورية الاتحادية. تختص هذه المحكمة في النظر بمدى توافق القوانين مع دستور البلاد، وهي بذلك تساعد أي مواطن في الدفاع عن حقوقه وحرياته في وجه الدولة. لفترة طويلة من الزمن ظلت المحكمة الدستورية الاتحادية في ألمانيا أمراً فريداً من نوعه قلّده العديد من الدول حول العالم. أحد أمثلة ذلك هي إسبانيا، التي يتضمن دستورها الحالي إقامة محكمة دستورية.
من أهم ما أدخل على الدستور اللبناني من تعديلات وفق وثيقة الطائف هو إنشاء محكمة دستورية القوانين تحت مسمّى "المجلس الدستوري" ولكن جرى تقليص صلاحياته وحصر مهامه بالنظر في الطعون النيابية وما قد يحال إليه من رئاسة الجمهورية أو من النواب ولكن بطريقة معقدة – حتى في تدخل السلطتين التنفيية والتشريعية في تعيين أعضائه - لا تفي بالغرض الذي أنشئ من أجله.
ثانياً: النيوليبرالية – هيمنة نظام السوق وتداعياته
وُضعت أسس البرنامج النيوليبرالي في القرن التاسع عشر مع نمو النزعات "الجماعية" في النشاطات الاقتصادية، مثل: صعود الشركات الكبرى، وتنامي التدخل الحكومي في الاقتصاد، والأهم، تطور الحركة العمالية، و"التهديد" المصاحب للاشتراكية. وبينما ولد الرد النيوليبرالي قبل عمل جون ماينارد كينز (John Maynard Keynes)، لقد كان الإطار النظري لعمل كينز، بهدف خلاص الرأسمالية من خلال تدخل حكومي نشط، هو الذي عجّل في برنامج النيوليبرالية المنظم، وكان الهدف هو الحفاظ على نظام اجتماعي رأسمالي لمصالح الملّاك الكبار (عموما). وقد حقق هذا البرنامج نجاحاَ ضخماً بهذا الخصوص، بالرغم أنّ العديد من التوصيات المحددة - مثل الخصخصة، وإلغاء الضوابط التنظيمية، الخ - أثبتت كارثيتها، وفق الباحث جون هنري.
أسّس الأكاديميون النيوليبراليون مؤسسات مع رجال أعمال، وصحفيين وسياسيين. في حين أننا عموما نرى الصعود النيوليبرالي مرتبط بانتخاب مارغريت تاتشر (Margaret Thatcher) ورونالد ريغان (Ronald Reagan) كل في منصبه، لكن التنفيذ الجزئي لبرنامج النيوليبرالية بدأ مباشرة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدا في فرنسا وألمانيا. كان التشديد بين أولئك الذين شاركوا في الاجتماعات المبكرة على تطوير ليبرالية "جديدة" ("new" liberalism). وقد تم الاعتراف (تقريبا) من قبل الجميع أنّ الليبرالية الكلاسيكية في شكلها الأصلي لم تعد تمتلك القوة النظرية والأيديولوجية. ومع ذك، فإنّ العناصر الجوهرية في الليبرالية الكلاسيكية - السوق، والملكية الخاصة، والفردانية - يجب الاحتفاظ بها.
وفي إشارة ملفتة يطلعنا الكاتب على مدى تحكم الشركات ومن خلفها آيدولوجيا إقتصاد السوق بمراكز الأبحاث والدراسات، فقد أنشأ النيوليبراليون أو استطاعوا السيطرة على مختلف "مراكز البحوث". وكانت أول مؤسسة من هذا القبيل هي معهد الشؤون الاقتصادية (the Institute of Economic Affairs) الذي تأسس عام 1955. وقد تبعه بعد ذلك: مركز دراسة السياسات (Centre for Policy Studies)، ومعهد آدم سميث (Adam Smith Institute)، ومؤسسة هيريتيج (Heritage Foundation)، وغيرها وأصبح العديد من مراكز الدراسات هذه مرتبطا في شبكة الحرية (Freedom Network) ومؤسسة أطلس للدراسات (Atlas Research Foundation). وكلاهما مؤسسات مظلة من تصميم (السير) آنتوني فيشر ((Sir) Anthony Fisher) والذي كان القوة المحركة خلف إنشاء معهد الشؤون الاقتصادية. وتوفر هذه المؤسسات مظهرا خادعا لكن مرموقا للعقلانية الفكرية، وتشتمل على منشورات داخلية يمكن من خلالها نشر البرنامج السياسي النيوليبرالي.
1 - النيوليبرالية والديمقراطية
إحدى ادعاءات النيوليبرالية أن اقتصاد السوق الحر والمنافسة هما الضمان للنظام الديمقراطي، وأن الاشتراكية ستؤدي إلى أنظمة شمولية كما حدث في الجزء الشرقي من أوروبا. وللمفارقة، فإن أول تجربة لتطبيق النيوليبرالية خارج الولايات المتحدة كانت في ظل حكم عسكري دموي في تشيلي، وخلافًا لادعاءات منظري النيولبرالية فإنها لم تسهم بلبرلة أو دمقرطة سياسية في تشيلي بل بالعكس، قد مزجت بين الحكم العسكري الدموي وأصحاب الثروات وحوّلت تشيلي إلى دولة تابعة.
ومن التأثيرات السلبية الجدية للنيوليبرالية على الديمقراطية، تقديس حكم الخبراء، وذلك بحجة أن الساسة المنتخبين ديمقراطيًا لا يمكنهم تحديد السياسات الاقتصادية، أولا لأنهم ليسوا خبراء في الاقتصاد؛ وثانيًا، تحركهم دوافع سياسية انتخابية مثل التعهدات للناخبين في الحملات الانتخابية. لذا دعا منظرو النيبوليبرالية إلى إعلاء شأن التكنوقراط وتحجيم دور السياسيين المنتخبين ديمقراطيًا. وهذا ما حصل في أكثر من دولة.
وأزمة النيوليبرالية في تشيلي ليست الأولى، فقد سبقها تدخل حكومي أميركي في ظل إدارة باراك أوباما لمنع انهيار البنوك وبورصة وول ستريت في العام 2008، فيما خسر الآلاف أو ربما عشرات الآلاف منازلهم بعد الأزمة المالية الكبيرة، وهو على عكس ما تدعو إليه النيوليبرالية بتقليص تدخل الدولة بالاقتصاد إلى حدوده الدنيا. كما لم تعزز النيوليبرالية من ديمقراطية أميركا، بل أفرزت الأزمة المالية خطابًا شعبويًا يمينيا يعادي مؤسسات الدولة الديمقراطية، وتوّج دونالد ترامب رئيسًا لأقوى دولة في العالم. ففي الواقع إذًا، لم تعزز النيوليبرالية الديمقراطية في الدول التي طبقت فيها، بل بالعكس، فقد خلقت نظام حكم التكنوقراط، أو حكم الخبراء، الذي جعل المواطن يشعر بأن لا قيمة له في تحديد توجهات الحكم بسبب هيمنة الخبراء، أي انعدام "الإرادة الشعبية".
ولم تقتصر التأثيرات السلبية للنيوليبرالية على الداخل – داخل الدولة، بل تحولت إلى "ديانة" عالمية تتستر بنظريات "علمية" مدعومة من أصحاب ثروات ضخمة مثل فورد، الذي موّل أبحاث ونشاط منظري النيوليبرالية في جامعة شيكاغو وعلى رأسهم فريدمان. وهذا يؤكد في الحقيقة أن التسمية هي محاولة للالتفاف على الرأسمالية سيئة الصيت والسمعة بعد الحرب العالمية الثانية، و"زركشتها" بطروحات عن دمقرطة أنظمة الحكم، وتطوير آليات إدارة السوق.
ويرى الباحث الفلسطيني رامي منصور أن "النيوليبرالية ليست فقط أنها لم تعزز الديمقراطية، بل حولت الثورة المعلوماتية التكنولوجيا إلى خط إنتاج عبودية حديثة، على شكل مصانع وورش تصنيع في الدول النامية وفي مقدمتها الصين الشيوعية، التي تحولت إلى مركز تصنيع عالمي في خدمة الشركات الغربية التكنولوجية العابرة للقارات. كما عززت من سيطرة وهيمنة شركات التكنولوجيا مثل غوغل وفيسبوك على قطاعات واسعة من الاقتصاد، مثل الميديا والإعلانات، والأخطر أنها حولتها إلى نظام مراقبة وضبط عالمي، بات كل شخص في الكون معرض للاختراق والتجسس والاعتداء على خصوصيته. وهذه كلها معادية للديمقراطية والحريات".
ويضيف منصور أن هذا العقد كشف أبشع ما في النيوليبرالية: حكم خبراء – تكنوقراط يقزم المواطن ويلغي عمليًا حيوية العملية الديمقراطية؛ أنظمة مراقبة متطورة واحتكار للمعلومات والميديا؛ عبودية حديثة تتجاوز الإدمان على الاستهلاك؛ حروب أهلية في الدول النامية واضطرابات سياسية كبرى.
2 - النيوليبرالية وحقوق الإنسان
في محاولةٍ لفهم أن النيوليبرالية وحقوق الإنسان متوافقتان واحدتهما مع الأخرى إلى أبعد حد، تقول الباحثة البريطانية جيسيكا وايت أنه "لا بد من تحدّي النظرة الشائعة التي تقول إن النيوليبرالية مذهب عقلاني اقتصادي محض وحيادي أخلاقيًّا... أخذتُ عنوان كتاب «أخلاقيات السوق» عن النيوليبرالي النمساوي فريدريش هايك، مؤسس «جمعية مون بيلرين» وهو الذي حاجج بأنّ نظام السوق التنافسية يتطلّب إطارًا أخلاقيًّا يكرّس تراكم الثروة واللامساواة، ويروّج للمسؤولية الفردية والعائلية، ويضمن الخضوع للنتائج الموضوعية لمسار السوق على حساب السعي المتعمّد إلى أهدافٍ محددة جماعيًّا".
وتضيف أن النيوليبرالية مذهب أخلاقي وسياسي بذاتها وليست مجرد مذهب اقتصادي. وقد نسب الليبراليون الأوائل إلى السوق سلسلة من الفضائل المعادية للسياسة: التصدي للسلطة وتبديد قواها، تيسير التعاون المجتمعي، تسوية النزاعات سلميًّا، وتأمين الحرية الفردية والحقوق الفردية. وصوّروا المجتمع التجاري أو «المجتمع المدني» على أنه فضاء من العلاقات الطوعية تتوخّى المنفعة المتبادلة في مواجهة العنف والقسر والنزاع وهي في محاجتهم من أمراض السياسة، والسياسة الجماهيرية خصوصًا. وإذا تمكن المفكرون النيوليبراليون وناشطو حقوق الإنسان من أن يجدوا قضية مشتركة تجمعهم، كما أعتقد أن هذا هو الحال، فأبرز سبب لذلك هو أنّ نيوليبراليي القرن العشرين كانوا أقلّ انشغالاً بالنطاق الاقتصادي الضيّق مما توحي به الكتاباتُ الحالية عنهم. وإني أبيّن على امتداد الكتاب أن المفكرين النيوليبراليين يتّهمون المحاولات التي بُذلت في القرن العشرين لتأمين حقوق راسخة في الرفاه الاجتماعي وتقرير المصير الوطني بأنها تهديدات لنظام السوق ولـ«الحضارة» ذاتها. ثم أبيّن أيضًا أن النيوليبراليين قد طوّروا روايتهم الخاصة عن حقوق الإنسان على اعتبارها دعائم أخلاقية وقانونية لنظام السوق الحرة.
فقد نظر النيوليبراليون إلى حقوق الإنسان وإلى الأسواق التنافسية على أنها تتشارك في بنية واحدة. في كتابه السجالي واسع الانتشار «الطريق الى العبودية»، حاجج هايك بأن «أفكار العام 1789- العدالة، الحرية، المساواة – إن هي إلا مُثُلٌ تجارية بامتياز لا غرض لها غير تأمين بعض المنافع لأفراد». ويعتقد النيوليبراليون بأن السوق التنافسية سمحت بوجود الحقوق الفردية، لكنّ اشتغال السوق يعتمد أيضًا على حكم القانون والاعتراف بحقوق الإنسان. وحقوق الإنسان، بالنسبة للنيوليبراليين، موجودة لا لحماية الفرد وإنما للحفاظ على نظام السوق وعلى تراتب الهويات الموروثة في وجه التحدي السياسيوقد تجلّت النظرة النيوليبرالية إلى حقوق الإنسان في أنقى أشكالها فترة صعود النيوليبرالية، في إنكار مارغريت ثاتشر أنّ «خدمات الدولة حق مطلق» المتزامن مع مناصرتها «الحق في اللامساواة»، وفي دفاع رونالد ريغان عن «الكرامة الإنسانية» بما هي "المثال الذي يتوّج الحضارة الغربية".
إن هذا التوجه جعل من منظمات المجتمع المدني "الأنجيؤوز" العاملة في مجال حقوق الإنسان منظمات متردّدة وغير مؤهلة لتحدي الآثار البنيوية والموضوعية لآليات السوق. ومع أنه يفترض بكبريات الأنجيؤوز العاملة في حقل حقوق الإنسان أن تتحاشى اللجوء إلى القسر، فقد كانت على استعداد تامّ لاستدعاء الجبروت العسكرية لأعتى الدول كي تتدخّل، باسم تأمين حقوق الإنسان، من أجل فرض أخلاقيات السوق على امتداد الكرة الأرضية.
في غياب التعاطي مع هذا النفوذ، فإن الحركات والنضالات الاجتماعية التي تستخدم لغة حقوق الإنسان من أجل مقاومة النيوليبرالية قد تجد نفسها في وضع تعزّز فيه قبضةَ النيوليبرالية بدل العكس.
ثالثاً: معضلة الديمقراطية في الوطن العربي
لم يتأخر تأثير النيوليبرالية السلبي بالظهور في انهيار أنظمة عالمثالثية، وتحديدًا في العالم العربي مع بداية انتفاضات الربيع العربي. فهذه الانتفاضات في جانب رئيسي منها كانت انعكاسا أو ردة فعل على "إصلاحات نيوليبرالية" قامت بها دول عربية منذ أواسط الثمانينات، لكن لم ترافقها دمقرطة حقيقية لنظام الحكم. واقتصرت الإصلاحات على خصخصة أملاك الدولة ونقلها إلى القطاع الخاص، الذي لم يكن خاصًا في الواقع، بل انتقلت الملكية لمقربين من الحكم. هذا ما حدث في مصر وسورية عشية اندلاع الانتفاضات الشعبية فيها.
فقد أصبحت هذه الدول رهينة لمؤسسات نيوليبرالية عالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد، وباتت تعتاش على القروض الضخمة، اليونان ولبنان ومصر مثلا، وأصبح جهاز الدولة منفوخًا وغير قادر على استيعاب الارتفاع المتزايد في البطالة. فبسبب الفساد، لم تزد الخصخصة من مدخولات الدولة، ولم تؤد إلى إصلاحات عميقة في القطاع العام، فنتج نظاما اقتصاديا مشوها وهجينا يعجز عن مواجهة الأزمات الاقتصادية وارتفاع نسب البطالة بموازاة ارتفاع نسب الشباب الخريجين من الجامعات، الذين يعجز القطاع الخاص عن استيعابهم.
معضلة الديمقراطية المعنية هنا تشير إلى المرحلة التي وصلت إليها الدول العربية، حيث تتزايد المطالب الشعبية بتغيير النـخب الحاكمة والتداول السلمي للسلطة والإصلاح، وتوسيع مساحة المشاركة الشعبية وغير ذلك من مفردات التحول إلى نظام ديمقراطي تعددي تلعب فيه صناديق الانتخابات الدور الرئيسي في انتقال السلطة من نخبة إلى أخرى، ومن جيل إلى آخر.
1 - الديمقراطية صورية في الوطن العربي ومتجذرة في بلدان أخرى
يتساءل الكثيرون عن سبب كون الديمقراطية صورية في عالمنا العربي، بينما حلت وانتشرت وتجذرت في بلدان أخرى كدول أوروبا الشرقية وبعض دول أفريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية منذ الربع الأخير من القرن الماضي؟ يمكن لأي مواطن عربي لديه اهتمام وإطلاع بما يجري في عالمنا العربي أن يضع يديه على مجموعة من الأسباب والعوامل البنيوية والمعنوية لهذا الغياب، يفندها حسن العطار: كالآتي:
أولا: طبيعة الثقافة السياسية السائدة في غالبية البلدان العربية، ونعني بها مجموعة القيم السائدة التي تتعلق بالحياة السياسية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهي قـيم قائمة على الطاعة العمياء لأولي الأمر دون مراجعة أو نقد، وتمجيد الزعيم والقائد واعتباره زعيما تاريخيا بيده مصير الأمة وقدرها، ولا يجوز النظر إليه إلا كخيار يتحكم به القدر مجيئا وذهابا.
ثانيا: حين تشيع ثقافة سياسية تمجد الزعيم وتنزع عن الجماهير قدرتها على الفعل والعمل، يـصبح العقد الاجتماعي السائد بين الحاكم والشعب قائما على نوع من التسلط والإكراه، وهما بندان يغيب معهما أي علاقة سوية بين الحاكم والمحكوم. كما يصبح المصير كله بيد نخبة محدودة العدد ولكنها مهيمنة على مفردات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مقابل غالبية جماهيرية مغيبة ولا تأثير لها.
ثالثا: إن الحرس القديم متجذر المصالح يدرك أن ذهاب الغطاء الشمولي عنه سوف يكشف كل عوراته وموبقاته، وكل ما خلفه للوطن من تراجع وتدهور على كل الأصعدة. ومن هنا، فإن معركته الرئيسية والتاريخية هي ضد التغيير والتطوير. وحين يضطر لرفع شعارات ديمقراطية، يعرف تماما كيف يجعلها مجرد شعارات لا أكثر ولا أقل.
رابعا: ما تزال مجتمعاتنا العربية قبلية وعشائرية وطائفية، وهذا ما اظهرته الانتخابات التي جرت قبل الثورات العربية وبعدها، فالشعوب ما زالت تصوت في الانتخابات على أسس مذهبية وطائفية وقبلية وعشائرية وجهوية ومناطقية. ومعظم الأنظمة تحكم منذ عقود على الطريقة الاستعمارية الشهيرة "فرق تسد"، وكما كان الاستعمار يعزز التناقضات العرقية والطائفية والقبلية بين سكان البلدان التي كان يستعمرها كي يبقي أهلها منشغلين بخلافاتهم وصراعاتهم، حتى يسهل عليه التحكم بهم وضربهم بعضهم ببعض كلما اقتضت الحاجة فيما لو فكروا بالثورة عليه، فإن الأنظمة التي تزعم انها وطنية حكمت بعد خروج الاستعمار من بلادها بالطريقة الاستعمارية نفسها او ربما أكثر سوءا منها.
جاءت الديمقراطية في الغرب نتيجة تطور تاريخي طويل نسجته صراعات اقتصادية واجتماعية وسياسية وآيديولوجية، تعارضت فيها الطبقة الإقطاعية والملكية المطلقة من جهة، والبرجوازية ومن وراءها الشعب بأجمعه من الجهة الأخرى خلال المرحلة الأولى، ثم السلطة البرجوازية من جهة والطبقة العاملة المنظمة من الجهة الأخرى في المرحلة التالية بعد انتصار البرجوازية على الإقطاع، وحدثت هذه الصراعات في ظروف لم يكن هناك عدو خارجي في الميدان السياسي والعسكري ولا حتى في الميدان الاقتصادي.
2 - هل من إستعصاء ديمقراطي في العالم العربي
يجيب الباحث الإردني الدكتور عارف بني حمد على التساؤل بالقول "منذ إستقلالها لم تنتقل الدول العربية، إلى نُظم حكم ديمقراطية، على الرغم من أن هناك فروقاً جوهرية بين أنظمة الحكم العربية من حيث الانفتاح السياسي ومستوى حرية التعبير وحكم القانون ونمو المجتمع السياسي والمجتمع المدني، بل أرست بدرجات متفاوته أشكالا من أنظمة حكم أقرب إلى أنظمة حكم الفرد المطلق حيث تكون إرادة الحاكم الفرد (ملكاً أو سلطاناً أو أميراً أو رئيس جمهورية ) هي مصدر السلطات.
ورغم وجود دساتير توضح شكل نظام الحكم والعلاقة بين السلطات الثلاث وبينها وبين المواطنين، إلا أن بعض الدول العربية نصت دساتيرها على أن يحتفظ الحاكم بالسلطة المطلقة بشكل صريح، أو أنه بالممارسة العملية يتحايل على المواد الدستورية، سواء احتاج ذلك منه إلى تعديل الدستور وتزوير إرادة المواطنين، تتيح للحاكم الفرد أن يحتفظ بالسلطة والثروة والنفوذ ويوزعها كيفما شاء، طالما يتمتع بالحماية الخارجية .
ويضيف بني حمد "أما الدول العربية الأخرى التي تنص دساتيرها على أن الشعب مصدر السلطات فإن معظمها تقوم بتعطيل ذلك المبدأ بقوانين الطوارئ والأحكام العرفية. كما أنها تتحايل على مبدأ الشعب مصدر السلطات، بتوفير شكل الممارسة الديمقراطية دون الالتزام بموضوعها، عن طريق تسخير السلطة التشريعية والقضائية إلى جانب السلطة التنفيذية والإدارة العامة وأجهزة الأمن، لإرادة الحاكم الفرد المطلق" .
ويذكر أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت شفيق الغبرا عدة أسباب لانعدام الديمقراطية في العالم العربي. منها وجود تناقض حاد بين التغيّرات الواقعة بين الشباب العربي في معرفة حقوقه ومتطلباته، خاصة مطلب الحياة الكريمة، وبين بنية النظام العربي، الذي يعاني من التكلس والهشاشة، بشكل يجعله عاجزاً عن التفاعل الإيجابي مع هذا الجيل.
ويشير الغبرا إلى أن النظام العربي الحالي لا يحمل جواباً لتحديات العصر، وأن ما قامت به بعض الأنظمة من "تحديث الديكتاتورية، أي تحديث الشكل السلطوي للبنية" لم يؤد إلا إلى مزيد من المشكلات العميقة. وينفي الغبرا ما رددته بعض الأوساط من كون التطرّف الإسلامي هو سبب رئيسي لغياب الديمقراطية في المنطقة، مشيراً إلى أن أصل المشكلة هو غياب خطط حقيقية للتنمية، فضلاً عن غياب ثقافة المساءلة الحقيقية للنخب الحاكمة أمام الشعب، الذي من المفروض أن يعبّر عن نفسه داخل أحزاب فاعلة سياسياً.
ومن الأسباب الأخرى، يزيد الغبرا في حديث مع DW عربية، هو وجود ثروة نفطية هائلة في بعض الدول العربية، إذ كان تأثير هذه الثروة سلبياً على طبيعة الأنظمة العربية، فقد قوّت النظام الحاكم على حساب التطوّر الطبيعي للمجتمع المدني. وهناك كذلك سبب آخر متعلق بالصراع العربي- الإسرائيلي، فالمواجهات المتعددة التي دارت بين الطرفين عسكرت العقلية العربية وأبعدتها عن الرؤى الديمقراطية.
ويرفض الأستاذ بجامعة الكويت، شفيق الغبرا، الحديث عن نظرية فشل الربيع العربي، ويقول إن ما جرى عام 2011 أعطى إشارات عديدة، منها أن الشعوب العربية واعية بضرورة أن تحيا بكرامة مثل الشعوب الأخرى، ومنها أن المنطقة تزخر بتيارات تتقاسم ضرورة التحديث، حتى منها الإسلامية، التي تأكدت أن لا خيار لها سوى الانخراط في المشروع الديمقراطي. كما وجَّه الربيعُ العربي رسائل إلى الدول العربية بضرورة البدء الفعلي لمشروع الإصلاح الذي وعدت به منذ مدة. لكن ما جرى أن الأنظمة لم تستوعب هذه الإشارات، ما أدى إلى وقوع ثورات مضادة أحرقت الكثير وساهمت في تدمير الكثير من المكتسبات، خاصة العودة إلى غياب مظاهر التعبير السياسي، يقول الغبرا، ويتوقع أن يؤدي هذا الواقع مستقبلاً إلى انفجار أكبر، أي أن الربيع العربي قد يعود، لكن بشكل أكثر عنفاً وأكثر جماهيرية وأكثر ثورية، وهو ما يستدعي من النخب الحاكمة، إن أرادت تفادي هذا السيناريو أن تبحث عن طريق جديد قوامه الديمقراطية، فـ"الشعوب تغيّرت، وعلى التغيير أن يمسّ كذلك النخب الحاكمة".
3 - أين الديمقراطية من الفساد الذي أصبح نظاماً متكاملاً
في دراسة نشرتها مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في 6 حزيران/يونيو 2014 بعنوان: الفساد- الخطر غير المدرك على الأمن الدولي، خلاصة تفيد أن "الفساد في عدد غير قليل من البلدان في أنحاء العالم كافة، هو النظام بحد ذاته. فقد تم تغيير أغراض الحكومات لخدمة هدف ليس له علاقة تذكر بالإدارة العامة: الثراء الشخصي للشبكات الحاكمة، وهي تحقّق هذا الهدف بشكل فعّال تماماً. وقد يكون عجز القدرات وأوجه القصور الأخرى جزءاً من الطريقة التي يعمل بها النظام، بدل أن تكون مؤشّراً على انهياره".
تكشف دراسة المؤشّرات الشهيرة التي تقتفي أثر الفساد من جهة والعنف أو عدم الاستقرار من جهة أخرى عن تطابق واضح. فالبلدان التي تتميّز بالفساد الشديد تعاني أيضاً من الصراع أو فشل الدولة. ويثير هذا الفساد المنظّم سخط السكان، ما يجعله عاملاً مؤثّراً في إثارة الاضطرابات الاجتماعية والتمرّد. وقد لا يؤجّج الفساد هذه التهديدات فقط، بل يتواكب مع عوامل خطر أخرى، مثل الخلافات العرقية أو الدينية أو اللغوية لدى قطاع معيّن من السكان أو التفاوت الاقتصادي الحادّ، لزيادة احتمال حدوث تحدّيات أمنية.
ونقرأ في الدراسة أنه "عادة ما يغلّب صنّاع القرار في الغرب الاعتبارات الأخرى، مثل الضرورات الأمنية المباشرة أو القيمة الاقتصادية أو الاستراتيجية، للحفاظ على العلاقات مع حكومة معينة، أو مواصلة تحصيل الاستثمار، ويقدّمونها على المخاوف من الفساد. ونتيجة لذلك، فإن المؤسسات والأفراد في الغرب غالباً ما يمكّنون الحكومات الفاسدة، ما يؤدّي إلى تفاقم التهديدات الأمنية وتكبّد مخاطر جديّة على السمعة في بعض الأحيان".
الى جانب ما أوضحت الدراسة من تداعيات الفساد على الدولة وعلى الأمن الدولي، يستنتج الباحث رامي منصور أن ما أغفلته الدراسة من الأهمية للباحثين ولأبناء تلك الدول المصنفة فاسدة أنه عندما يتم تبديد البترول عماد الثروة الوطنية العراقية على أحزاب وميليشيات، وعندما يتم ضخّ أموال عامة في البنوك الخاصة للحفاظ على رأس المال الاحتياطي في بلد ما، على سبيل المثال، قد يكون نهب النخب الكليبتوقراطية – وهو مصطلح لنمط الحكومة الذي يراكم الثروة الشخصية والسلطة السياسية للمسؤولين الحكوميين والقلة الحاكمة، وذلك على حساب الجماعة، كما عرّفته الدراسة - لتلك البنوك غير مرئي بالنسبة إلى المراقبين الخارجيين، في دول كثيرة، ويتساءل: ألا تمر تلك الإيداعات عبر مصارف الدول الكبرى؟ وحيث يتم تجميل ترتيبات الدفع (دفع الأموال مقابل الحصول على الخدمات) على أنها استثمارات أجنبية مباشرة في الصناعات المحلية، أليست الإستثمارات الأجنبية المستفيد الأول من تلك العمليات؟ وعندما يتم تمكين تنظيمات الأمر الواقع في أماكن سيطرتها من بيع البترول كما تفعله تنظيمات متشددة في سوريا والعراق، ألا يحصل ذلك عن طريق دول مستقرة متحايلة على القوانين الدولية في ظل سكوت الدول العظمى؟
ويضيف ان "استنتاجات دراسة مركز كارنيغي للبحوث قيّمة ومنهجية ومرجعية ولكنها نبهت الدول الغنية الى مخاطر استمثاراتها في الدول الفاشلة والفاسدة دون ان تتطرق الى دور أصحاب الرساميل ودولهم العظمى في غض النظر أو تسهيل الفساد المنظم لربط المفاصل الإقتصادية الهامة بما فيها الثروات الوطنية للشعوب المحكومة من جماعات تنعم بضمانة البقاء في الحكم بفضل مصالح الدول العظمى. هناك فساد وهناك مفسدون ويكفي ان ننظر الى مزاريب هذه الآفة واين تصب وكي لا يفهم استنتاجنا بأننا نتهم فلنبحث عن "الصدفة" التي أرست أرقى معايير الرقابة والمحاسبة في الدول الغربية واستفادت من ضعف ووفشل الدول الأخرى التي تخترن موارد الطاقة المعدنية والبترولية والبشرية."
أن التطورات اللاحقة تُظهر كيف أن هذه التحركات عجزت عن تفكيك الاستقطاب المتجذر والمعطّل الذي يشلّ الدول العربية – استقطاب أدّى إلى أزمة سياسية وطرق مسدودة وصراعات باردة ودموية إضافةً إلى حروب أهلية طويلة.
ثمة مثل عربي قديم يقول: أنا ضد أخي. وأنا وأخي ضد ابن عمي. وأنا وأخي وابن عمي ضد الغريب. في حين يشير هذا المثل إلى القدرة على التوحّد ضد عدو أو تهديد متوقّع، إلا أنه يحمل في طياته استقطابًا ظرفيًا وثقافيًا واجتماعيًا ودينيًا راسخًا لا يمكن إخفاؤه، وهو استقطاب يهدّد بروز وتطوّر عقود اجتماعية عملياتية أساسية في معظم دول العالم العربي.
وفي حين أن الاستقطاب القاتل لا يؤثر في هذه المنطقة فحسب ولا تقتصر جذوره تاريخيًا على العالم العربي دون غيره، إلا أن العجز عن التغلب عليه لصالح إجماع معلل وعقود اجتماعية يُبقي هذه المنطقة من بين أكثر أنحاء العالم تضررًا بالصراعات.
يُعتبر لبنان مثالًا آخر في هذا الصدد؛ فالجمود السياسي الذي تشهده البلاد في الآونة الأخيرة ليس الأول وحتمًا لن يكون الأخير في سلسلة طويلة من الانقسامات السياسية والاجتماعية. وفي ظل وجود 18 طائفة معترف بها رسميًا، فإن لبنان هو أكثر مجتمعات العالم العربي تعددًا من حيث الإثنيات والأديان. ونظرًا إلى هذا المستوى من التنوع المحلي، اختار الإطار الطائفي لتشارك السلطة وضمان الاستقرار وإلى حدّ ما التمثيل السياسي على مستوى الجماعات الطائفية. وفي حين ضمن هذا الترتيب إرساء استقراراً نسبياً، لم يحل دون تعطّل المؤسسات أو الفراغ السياسي أو التوترات الطائفية. وبالفعل، يبدو أن إطار الترتيب الطائفي ساهم في ترسيخ الهويات الطائفية وحصر السلطة بأوساط النخب التقليدية وعزّز الزبائنية على أسس دينية ومذهبية. وفي نهاية المطاف، أدى الترتيب الذي صُمّم أساسًا لدعم التعايش والتعددية إلى تأجيج الاستقطاب وزيادة التكاليف المرتفعة المترتبة على مؤسسات الدولة غير الفعالة وهدر الطاقة والمياه والأزمات السياسية المتكررة، وهي عوامل تلحق الضرر بالتنمية الاقتصادية في البلاد.
في الخلاصة، لقد طوّر الغرب مفاهيم كثيرة وتوصّل عبر المثابرة والجهد القويم الى اعتماد النظام الذي نفتقده نحن في هذا الشرق. ومن المفكرين من يتهم كل ما هو غربي بعدم امكانة تطبيقه في مجتمعاتنا، ولكن، وبغية عدم تقليد الغرب، ولأجل السير على طريق الإبتكار ينبغي – كما جزم عبد الوهاب المؤدب - تحويل اشتقاق كلمة "بدعة" الى إبداع. فأحد المفاهيم التقليدية للبدعة، الذي كثيراً ما يتردد على كل لسان، أن المتهم به يلحقه العار والإدانة والهامشية والحرمان وحتى التكفير، وذلك بأن نعطي الكلمة الميِّزة الإيجابية التي تبرز ما يصدم العادة ويفزع الحكم المسبق ويقوّض الأفكار القارّة كما يرجُّ القوالب ويشارك في ما يسميه نيتشه "إبدال القيم" كشرط أولي للإنتماء الى روح الحداثة، فهل نستحق عندها ابتكار النظام الذي يحافظ على قيمنا المشرقية، طالما أن النيوليبرالية التي يتفاخر بها الغرب في مأزق.