أحدثت الانتخابات العراقية الأخيرة تغييراً واضحاً في المشهد السياسي في بلاد الرافدين بعد 18 عاماً من التجربة السياسية التي أعقبت سقوط نظام صدّام حسين بفعل الاحتلال الاميركي لبغداد، سيّما أنّ هذه النتائج أعطت الأحزاب ذات الطابع الوطني موقعاً متقدماً مقارنةً بالأحزاب الأخرى التي تتبنّى ميولاً سياسيةً إقليمية. وأظهر الناخب العراقي وعياً سياسياً، والتزاماً وطنياَ، ينسجم وتطلعات العراقيين ومعاناتهم، وفق ما كانت تطلقه شعارات مظاهرات تشرين الأول 2019، مما قد يعني أنّ العراق دخل في مرحلة سياسية قد تكون مغايرةً عن سابقاتها.
فبعد ساعات من إعلان النتائج الرسمية للانتخابات، والتي تطابقت فيها نتائج الاحتساب الإلكتروني مع نتائج الفرز والعد اليدوي، أعلنت الهيئة التنسيقية التي تضمّ القوى الشيعية الموالية لإيران، المدعومة من فصائل الحشد الشعبي، رفض نتائج الانتخابات وتقديم الطعون بها. وحمّلت الهيئة المفوضية العليا للانتخابات المسؤولية الكاملة عن فشل الاستحقاق الانتخابي وسوء إدارته، مما سينعكس سلباً على المسار الديمقراطي والوفاق المجتمعي في العراق. وأكّدت الهيئة في بيانٍ لها، "وجود أدلة كافية تثبت وقوف جهات خارجية متواطئة مع أطراف داخلية لإسقاط وإقصاء أطراف شيعية مهمة لها ثقلها السياسي والجماهيري في البلاد"، فضلاً عن "وجود تسجيلات تكشف تلك المخطّطات".
بانتظار ما ستقرّره الجهات العليا المعنيّة بالبت بالطعون الرسمية المقدّمة إليها، دعت الهيئة جمهورها لتنظيم التظاهرات الشعبية لمطالبة الحكومة بإلغاء نتائج الانتخابات، وحذّرت من المساس بالمتظاهرين.
الانتخابات التشريعية المبكرة التي جرت في 10 تشرين الأول الجاري، تجاوز مجموع المصوّتين فيها تسعة ملايين مقترع، أشادت فيها جهات رقابية دولية، مثل بعثة الاتحاد الأوروبي، وبعثة الأمم المتحدة، وبعثة الجامعة العربية، حيث جرت في أجواء آمنة نسبياً ولم يتخلّلها تجاوزات، جاءت نتائجها صادمة لكثيرٍ من الكتل السياسية والسياسيين، وصفها أحد المسؤولين العراقيين ب"الزلزال السياسي"، إذ فقدت كتلٌ سياسية حضورها القوي في البرلمان العراقي، مقابل صعود كتل أخرى حقّقت نتائج لافتة، فحصل التيار الصدري الذي يتزعّمه مقتدى الصدر، على أكبر عدد من المقاعد: 73 من أصل 329 مقعداً بزيادة عشرين مقعداً عن الانتخابات السابقة، وحلّ تحالف "تقدّم" بزعامة رئيس البرلمان المنتهية ولايته، محمد الحلبوسي، في المركز الثاني بعد أن حصد 37 مقعداً، ليقصي تحالف "فتح" برئاسة هادي العامري التابع للحشد الشعبي، والذي حصل على 14 مقعداً بعد أن كان القوة الثانية في البرلمان السابق.
وحلّت كتلة "دولة القانون" برئاسة رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، في المرتبة الثالثة بحصولها على 34 مقعداً، ثمّ الحزب الديمقراطي الكردستاني بـ 32 مقعداً، كما فازت القوى المستقلة التي تمثّل الحراك الشعبي بما يقارب 20 مقعداً.
مصادر مطّلعة على التركيبة العراقية أشارت إلى أنّ نتائج الانتخابات أظهرت تحولاً كبيراً في المزاج الشعبي العراقي لناحية تأييدها للأحزاب السابقة. فالمناطق الشمالية والغربية (السنّية) لا سيّما محافظات نينوى، وصلاح الدين، والأنبار، وجزء من ديالى وكركوك، أفرزت نواباً بعيدين عن الأحزاب الإسلامية التقليدية، حيث كانت تتّهم بتأييدها لتنظيم الدولة الإسلامية وحلفائها.
وفي المناطق الشيعية لم تقتصر المفاجأة على تقدّم التيّار الصدري وتحالف "تقدّم". فرغم قصر عمر التجربة السياسية للأحزاب التي انبثقت عن المظاهرات الشعبية، ورغم مقاطعة كثير من المتظاهرين للانتخابات، فإنّها حصدت ما يقرب من 15 مقعداً في مدن وسط وجنوب البلاد، فتلك القوى المتمثلة في حركة "امتداد" وكتلة "إشراقة تشرين" حصدتا 15 مقعداً، بواقع 9 للأولى و6 للثانية، لافتاً إلى أنّ حركة "امتداد" حازت 5 مقاعد في محافظة ذي قار، ومقعدين في النجف، ومقعداً عن كربلاء، وآخر في بابل، ما قد يعني بداية مرحلة جديدة في العراق عمادها الشباب، سيّما أنّ جميع الفائزين عن أحزاب تشرين هم من الوجوه الشابة التي لم يسبق لها دخول المعترك السياسي.
كردياً، كانت المفاجأة كبيرة أيضاً، حيث حافظ الحزب الديمقراطي الكردستاني على وجوده السياسي في البرلمان العراقي بكتلة من 32 مقعداً، فيما لم تحظى كتلة التغيير الكردية بأي تمثيل نيابي، مقابل حصول "كتلة الجيل الجديد" في محافظة السليمانية على 9 مقاعد، لافتاً إلى أنّ الكتل السياسية الكردية الأخرى حافظت على وجودها مع تراجع أعداد مقاعدها البرلمانية.
ووفق الدستور العراقي المقر عام 2005، فالكتلة الأكبر لها الحق في تشكيل الحكومة، مع وجوب أن تحظى بالأغلبية التي تمثل 165 مقعداً نيابياً من مجموع مقاعد البرلمان العراقي 329 مقعداً، فمن المرجّح أن يعمد كل من تكتل "التيار الصدري"، و"تقدّم"، و"الحزب الديمقراطي"، إلى تشكيل ائتلافاً وطنياً لتشكيل الحكومة القادمة، مع عدم استبعاد تعثّر تشكيل الحكومة لفترة قد لا تكون قصيرة، نتيجة الجدل الداخلي حول تفسير المحكمة الاتحادية حول الكتلة الأكبر وآلية تشكيلها.
قد يكون الغموض هو الميزة التي ستسيطر على العملية السياسية، وإنتاج الحكومة الجديدة، بسبب الغموض الذي يلفّ مستقبل التحالفات وحجم الضغوط الداخلية والتدخّلات الخارجية والإقليمية، والتي قد تضع التيار الصدري الذي راهنَ هذه المرّة بكلّ ما يملك، غير مستثنٍ اسم عائلة الصدر الذي اختاره اسماً للكتلة الصدرية، وذلك في حالة دفاعٍ عمّا يعتبره حقّاً دستورياً وشعبياً وسياسياً، وهو الأقدر على تحريك الشارع الشعبي إلى حدّ التلويح بالسلاح في مواجهة مَن يسعى إلى حرمانه هذا الحق.
أمّا الطرف الآخر، فلم يتردّد في الاستجابة للاستفزاز الذي صدر عن الصدر في حديثه عن الميليشيات والفصائل التي تدّعي المقاومة، وعن ضرورة حصر السلاح بيد الدولة، فاعتبر أنّ هذا الكلام يستهدفه، ولذا أعلن موقفاً حادّاً حمل ما يشبه التهديد بالمواجهة العسكرية مع أيّ طرف يستهدف وجوده، لا سيّما وأنّ تهديدات أبو علي العسكري، المتحدّث باسم كتائب حزب اللّه العراق، أحد فصائل الحشد الشعبي- واتّهامه مفوضية الانتخابات بارتكاب أكبر عملية احتيال والتفاف على الشعب العراقي في التاريخ الحديث، واتّهامه رئيس الحكومة، مصطفى الكاظمي، وعناصر جهاز المخابرات العراقية، بتغيير نتائج الانتخابات بالاتفاق مع جهات سياسية - يمثّل تهديداً مباشراً لأمن واستقرار العراق، وموقعه الجديد الذي أعاد تظهيره رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي من خلال حركته السياسية، وعلاقاته الخارجية وانفتاحه على الدول العربية، سيّما وأنّ النفوذ الإيراني في العراق، ومنذ انفجار الحراك الشعبي في تشرين 2019، يمرّ بمرحلة شديدة الحساسية والتي ترجمتها نتائج الانتخابات البرلمانية.
لقد شكّلت نتائج الانتخابات، بما أظهرته من تغيير لوجوه أكثر من نصف أعضاء البرلمان السابق، مفاجأةً صادمة للقوى التقليدية الشيعية التي تصدرت المشهد السياسي قرابة عقدين من الزمن، مقابل دخول وجوهٍ جديدة من الشباب المنتفض، وجمهور المتظاهرين إلى الحلبة السياسية ومجلس النواب، سوف يكون له تأثير كبير على مستقبل العراق ودوره وموقعه، حيث يضع قرار رفض الأحزاب الشيعية المتمثّلة ب "تحالف الفتح" لنتائج الانتخابات وعدم الاعتراف بها، العراق أمام أزمة مفتوحة على كل الاحتمالات.