Advertise here

ليبيا.. أحداث متسارعة

07 تشرين الأول 2021 09:38:36

منذ القِدم شكّلت ليبيا جسراً جغرافياً استراتيجياً يربط الشمال بالجنوب، والمشرق بالمغرب، تستريح في جيرتها الصحراء الكبرى، وتتأبّط الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط. وليبيا كانت على الدوام مهمة للأمن القومي المصري، ومعبراً لحجاج المغرب العربي الكبير إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة، وشكلت ملجأ للإغريق الهاربين من نار ظلم الإسبرطيين وقادة حملات الغزو قبل ما يزيد على 2500 عام.

ولا يمكن عزل ما يجري اليوم عما حصل عبر التاريخ، وعما يمكن أن يحصل في المستقبل في ضوء التطورات الدولية. والجغرافيا السياسية لليبيا ما زالت هي هي على الأهمية نفسها، بل إن هذه الأهمية مرشحة للتقدم إلى مكانات أكثر تأثيراً، على اعتبار أن الفسيفساء السكانية والخصائص الجهوية والثروات الطبيعية التي تحتضنها البلاد تتزايد غنى مع الزمن، ومهمة ليبيا في الإطار العربي لا يمكن تجاهلها، وهي حاجة استراتيجية عربية، كما أن دورها في سياق حراك الأسرة الدولية لا يمكن الاستخفاف به، فضلاً عن أهمية كونها حاضنة لعدد كبير من الأفارقة الهاربين من الجوع والمرض والظلم، وهي مهيأة لأن تكون واحة استثمارات داخلية وخارجية واعدة.

تحمّلت ليبيا ظلماً كبيراً خلال السنوات الماضية، لكن خطة التعافي الوطنية التي أنتجت مجلساً رئاسياً وحكومة جديدة تسير على قدم وساق، كما أن مساعي توحيد المؤسسات السيادية تبدو في طريقها نحو الإنجاز، وخيار الحوار والتعاون في إطار التنوع الموجود؛ هو الوحيد القادر على حل الإشكاليات القائمة، وكل المعطيات حتى الآن تُشير إلى أن الاستحقاقات الانتخابية المقبلة قبل نهاية العام ستنجح في إرساء معادلات ديمقراطية ترعى ركائز الدولة الحديثة، ما يعطي أملاً بالمستقبل الواعد الذي يعتمد على وحدة التراب الليبي، وعلى تعاضد شعبها العربي.

ولم تغِب التدخلات الخارجية يوماً عن ليبيا، وأغلبية هذه التدخلات تخفي أطماعاً توسعية، أو رغبة في الاستيلاء على ثروات الدولة، أو للاستفادة من التراب الليبي لتبادل الخدمات والمصالح بين الدول الكبرى، العالمية منها والإقليمية. وقد دفع الليبيون فاتورة باهظة من دمائهم وثرواتهم ومستقبل أبنائهم من جراء هذه التدخلات. ولا يمكن في هذا السياق إنكار مساعدة الأصدقاء الدوليين والأشقاء العرب في تعزيز صمود الليبيين في وجه التدخلات الخارجية، ولا دورهم في رعاية مسيرة التسوية والمصالحة التي، ستوصل ليبيا إلى برّ الأمان.

ويؤثر الحراك الدولي المحيط في مستقبل ليبيا ودورها العربي والدولي، إلا أن انقسام هذا الحراك خلف تجاذبات متنافرة؛ يُثير المخاوف، فما زالت بعض الدول الإقليمية الطامعة تساعد المرتزقة وتشجعهم على البقاء على الأرض الليبية، رغم أن مواقفها العلنية تُشهِر غير ذلك، كما أن الحسابات العقائدية «الإخوانية» ذات الأبعاد الخارجية تفعل فعلها في إعاقة مسيرة السلام، رغم تقهقر هذه الحركة في تونس وفي المغرب، وتراجع تأثيرها في الإقليم عامة. والخشية قائمة من انعكاسات الصراع الدولي الذي يخفي تجاذبات متعارضة، خصوصاً حول مستقبل النفط، وحول التنافس على الأسواق الاستهلاكية، وعلى ترسيخ الأدوار على المستوى الدولي لكونه هاجساً دائماً لدى الدول الكبرى منذ القِدم.

إجماع الدول الكبرى على تأييد مبادرة الأمم المتحدة السلمية كان موقفاً إيجابياً مشهوداً، خصوصاً في إنجاح مؤتمرات برلين وطاولات الحوار التي حصلت في المملكة المغربية وفي تونس، وقد ساعدت هذه الدول في تخفيف منسوب التدخلات السلبية التي كانت تساعد في تأجيج الخلاف الداخلي وفي تسليح ميليشيات متمردة على الشرعية، بهدف العودة لتحقيق أطماع إمبراطورية موروثة منذ أيام السلطنة العثمانية.

والأمل معقود على الصحوة العربية التي شاركت بفاعلية في مسيرة الحل للوصول إلى خواتيم سعيدة للمأساة التي عاشها الشعب الليبي، والمؤشرات الداخلية واعدة من خلال القوى الحية في المجتمع الليبي الذي يختزن طاقات بشرية هائلة مؤهلة لصناعة مستقبل مشرق للبلاد برغم التباينات الطبيعية القائمة بين الأطراف السياسية المتنافسة.

ومما لا شك فيه أن بعض التدخلات الخارجية السابقة؛ هدفت إلى تثبيت «دفرسوار»، أو عازل ليبي يفصل الدول العربية عن بعضها بعضاً، ويسمح بالتغلغل البشري غير المشروع من الجنوب إلى الأقاليم الليبية، وقد يكون أحد هذه الأهداف تقويض التماسك العربي، والعودة إلى مقاربات سابقة، فشل الاستعمار في ترسيخها، من خلال سعيه لتغيير الهوية القومية للشعب العربي في المغرب الكبير برمته.

الآمال معقود على إنجاز الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية والبرلمانية القادمة نهاية العام، وهي بطبيعة الحال ستدفع نحو تثبيت قوة ووحدة الدولة إذا لم يطرأ ما ليس في الحسبان.