Advertise here

تراجع هيبة الأمم المتحدة

06 تشرين الأول 2021 15:15:31

الانتظام الدولي العام مُهدد بالفوضى، والرعاية الدولية للملفات الوطنية المُعقدة تكاد تكون في أدنى مستوياتها، وقضايا السلم العالمي تُبحث على القطعة وسط مخاوف من التفلُّت النووي في أكثر من منطقة، كما أن التحديات السيبرانية تسير من غير ضوابط، والهيئات الدولية المتخصصة عاجزة عن انتاج تشريعات دولية دقيقة تحد من مخاطر الانفلاش الإلكتروني على الأرض وفي الفضاء.
 
يمكن القول إن منظمة الأمم المتحدة التي تأسست قبل 76 عاماً تلهث خلف المشكلات الحديثة في العالم من دون أن تتمكن من الإمساك بها، أو إيقاف جنوحها. والمنظمة الدولية الأعرق في تاريخ العمل الدولي المشترك، تأسست بالدرجة الأولى بهدف الحفاظ على السلم العالمي وعلى حل النزاعات بالطرق السلمية، ومن ثُمَّ القيام بالمهمات الثقافية والإنسانية والصحية وفي تأدية دور على مستوى رعاية التنمية الاقتصادية، خصوصاً في الدول الأكثر فقراً.
 
تبدو أروقة الأمم المتحدة اليوم منبراً لإلقاء الخطب، ولإشهار المواقف. والجمعية العامة السنوية التي عقدت في الأسبوع الأخير من شهر أيلول (سبتمبر) المُنصرم في مقر المنظمة في نيويورك، كانت خالية من أي حدث مؤثر، وبدت بالنسبة إلى غالبية رؤساء الدول كأنها استحقاق لا بد منه ولا فائدة فيه، فألقى معظمهم خطابات افتراضية عبر المنصات الالكترونية، وبعضهم الآخر حضر استكمالاً لواجب الحضور، من دون أن تشهد قاعات المقر أي لقاءات مهمة، والرئيس الأميركي جو بايدن الذي ألقى كلمة في حفل الافتتاح في 22 أيلول (سبتمبر) الماضي لم يتناول في كلمته سوى الملفات العامة مثل جائحة كورونا والتهديد المناخي وملف إيران النووي، من دون أن يحدد مواقف حاسمة تجاهها، وهو لم يدعوا رؤساء الوفود الى عشاء للسنة الثانية على التوالي كما درجت العادة.
 
ومن المداخلات المهمة الأخرى التي ألقيت عبر الشاشات في قاعة الجمعية العامة، كان خطاب الرئيس الصيني شي جينبينغ المسجل مسبقاً، وقد زادت من سماعه أجواء الرتابة التي كانت سائدة في القاعة، ولم يلفت الانتباه فيه سوى اشارته الى التزام الصين بعدم إنشاء محطات جديدة تعمل على الفحم الصخري، لأنها تزيد من التلوث الذي يساهم في الاختلالات المناخية في المستقبل. ومرَّت خطابات الرؤساء الآخرين من دون أن تُحدث أي اهتزاز لحالة الركود القائمة، في إشارة واضحة الى أن القضايا الدولية المهمة تبحث خارج قاعات المنظمة، وأن الدول الكبرى بدأت تتعامل معها باعتبارها منتدى انسانياً وثقافياً وحوارياً ليس أكثر.
 
من الواضح أن التفلُّت من الانتظام الدولي يتزايد شيئاً فشيئاً، وتجربة الخروج الأميركي من أفغانستان زادت من انتاج الفوضى، وأشارت الى الفشل الذريع للمعالجات التي كانت معتمدة من مطلع الألفية الثالثة ... فعشرون عاماً من وجود دول متقدمة على أراضي أفغانستان، لم تؤثر ابداً في نمطية التقاليد المحلية، ولم تُحدث تغييراً لصالح المقاربات الثقافية والديموقراطية التي تعتمدها هذه الدول المتقدمة. وقد انعكس الانسحاب الأميركي غير المدروس - كما كان الاحتلال غير المدروس قبل 20 عاماً - وبالاً على الأمم المتحدة، وأربك عملها في أفغانستان وفي محيطها، وبدت وفود الوكالات المتخصصة فيها مكشوفة الجانب، ومعرَّضة للخطر وللطرد، برغم أن حركة "طالبان" التي استولت على البلاد طلبت رسمياً من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش السماح لها بإلقاء كلمة باسم أفغانستان أمام الجمعية العامة في نيويورك، لكن طلبها لم يلقَ جواباً بعد.
 
تراجع هيبة الأمم المتحدة يؤدي حكماً الى تهديد القيم الديموقراطية في العالم، وبعض المجتمعات الصديقة للنمطية القائمة حالياً بدأت تفكر في انتاج ضمانات متمايزة عن الضمانات التي يقدمها ميثاق الأمم المتحدة، لأن مفهوم سيادة الدول واستقلالها الذي يتحدث عنه الميثاق، أصبحا مهدّدين من الفوضى العارمة التي تجتاح عدد من الأقاليم في العالم، خصوصاً في وسط آسيا وفي المنطقة العربية، وقوة المنظمات المُتشددة والإرهابية تتزايد، كما أن دولاً إقليمية كبرى تعمل على تقويض الانتظام العام في عدد من الدول المستقلة، وتتمرَّد على قواعد القانون الدولي العام في مواضيع حساسة، منها انتاج برامج نووية سرية، ومنها اختراق سيادة الدول المستقلة تحت ذرائع مختلفة.
 
التدخلات العسكرية لحل النزاعات الإقليمية لا تكفي، بل أنها تزيد من منسوب التوتر والفوضى كما حصل في العراق بعد عام 2003، لكن تغييب الدور الجامع للمنظمة الدولية عن المشهد بالكامل خطأٌ جسيم. فتحويل الأمم المتحدة الى منظمة إنسانية لغوث اللاجئين وتقديم المساعدات المختلفة، لا يبشر بالخير وسط هذا الهياج غير المسبوق الذي يهدّد استقرار العالم، خصوصاً بعد أن تنامت تأثيرات الأسلحة السيبرانية، وبعد تفاقم الحروب الألكترونية في أكثر من مجال، وخطة الحصارات القارّية التي تعمل عليها الدول الكبرى في مواجهة بعضها للبعض الآخر، تخفي مخاطر جمَّة على الدول الصغيرة في أكثر من مكان في العالم. ولا مجال للاستغناء عن الدور الجامع للأمم المتحدة لمعالجة هذه المعضلات، وهي الوحيدة المُهيّأة للتعامل مع التحديات، قبل أن تتفلَّت الأوضاع، وتتعمَّم تجربة أفغانستان وكوريا الشمالية وإيران على معظم انحاء العالم.