Advertise here

"مسار الأرز" الروسي و"طريق الحرير" الصيني بين أفغانستان وسوريا: تلاقي مصالح أم سباق نفوذ؟

06 تشرين الأول 2021 14:56:13 - آخر تحديث: 06 تشرين الأول 2021 15:26:51

تركت الولايات المتحدة الأميركية برحيلها من أفغانستان قنابل متفجرة في وسط آسيا قد تورّط الصين، وروسيا، وإيران وكل من يدور في فلكها، في صراعات إقليمية ومشاريع تنافسية، ستضعف من إمكانات الصين وروسيا، وتجعلهما في مواجهة مفتوحة فيما بينهما، وتضارب مصالح، وسباق على التمدّد والنفوذ في منطقة أوراسيا، لتبقى أميركا القوة العظمى الأولى بلا منازع.

فالانسحاب الأميركي من أفغانستان لم يكن خطأً استراتيجياً، أو نقطة تحولٍ في العلاقات الدولية يعزّز من دور الصين وموقعها في الصراع المفتوح مع الولايات المتحدة على قيادة العالم، كما يروّج له البعض، لا بل فإنّ الانسحاب الأميركي من كابول بعد عشرين عاماً من احتلالها، وبغضّ النظر عن مظهره الذي أصاب سرباً من الطيور المختلفة بمهارة وذكاء خارق، فإنّ واشنطن، وفي انسحابها هذا، دشّنت مرحلةً جديدة من استراتيجيتها التي أطلقها أوباما تحت شعار "احتواء الصعود الصيني".

موسكو التي تطمح، ومنذ فترة طويلة، لانتزاع الاعتراف الإقليمي والدولي بـ"مصالحها المميّزة" في جميع أنحاء منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي، يتركز اهتمامها على أفغانستان لما لها من تأثير في آسيا الوسطى التي تشكّل الحاجز الاستراتيجي للاستقرار في الجنوب، حيث لا تزال روسيا المزوّد الأمني المهيمن عليه، على الرغم من النمو الهائل للتجارة والاستثمارات الصينية في السنوات الأخيرة، والتي باتت تقلق الكرملين.

الصين التي فتحت منذ سنوات حواراً جدياً مع حركة طالبان، ليس لضمان استمرار استثماراتها في أفغانستان فحسب، بل لأن كابول تشكّل محطة أساسية، تاريخية واستراتيجية، لطريق الحرير ولمشروع الصين المستقبلي "الحزام والطريق".

 وبعيدا عن مقررات منظمة شنغهاي للتعاون، واعتمادها سياسة موحدة تصالحية تجاه الأزمة الأفغانية، فإنّ ما بين موسكو وبكين من منافسة تجارية وسياسية، حول النفوذ في آسيا الوسطى، برز إلى العلن بعد أيام من خروج آخر جندي أميركي من العاصمة الأفغانية نهاية شهر آب الماضي، حيث أعلن وزير الدفاع الروسي، سيرجي شويغو، في 7 أيلول 2021، تأييده مبادرة إنشاء "مسار الأرز"  الذي من المخطّط أن يمتد عبر منطقة سيبيريا ليصبح بديلاً لطريق الحرير الصيني وقناة السويس المصرية.

ففي مقابلة أجرتها قناة (روسيا اليوم)، الناطقة باللغة العربية، مع وزير الدفاع الروسي، والذي أوضح فيها: "كانت سيبيريا منذ زمن طويل جزءاً من طريق الحرير الكبير... يجب إنشاء مسار الأرز الحديث ليكون طريقاً آمناً وفعالاً بين أوروبا والصين". وأضاف شويغو: " تبلورت ضرورة إنشاء مثل هذا الممر الآمن للنقل بشكل واضح منذ فترة طويلة، وخاصة عند استذكار الأحداث الأخيرة المتعلقة بانسداد قناة السويس، وهجمات القراصنة، وكذلك الأوضاع الراهنة في أفغانستان".

وكان الملياردير الروسي، أوليغ ديريباسكا، الذي تحدّث عن  "مسار الأرز" لأول مرة بعد أسبوع على أزمة قناة السويس في آذار 2021، كممرٍ منافسٍ وبديل عن القناة البحرية المصرية، قال إنّ "لدى روسيا عدة مشاريع يمكن أن تصبح بسهولة بديلاً مناسباً للقناة المصرية، وأهمّها تطوير سكة الحديد العابرة لسيبيريا، والتي تربط موسكو بالشرق الأقصى الروسي". وطرح وزير الدفاع الروسي شويغو  "مسار الأرز السيبيري"، كبديلٍ عن  "طريق الحرير الصيني، ما يكشف طموحاً روسيا يتطلب إعداداً جيو-  سياسياً مسبقاً يتقاطع مع الأحداث المتفجرة في منطقتي الشرق الأوسط ووسط آسيا، والتي تشارك فيها روسيا بقوة.

ووفق خبراء الاستراتيجيات، فإن الرؤية الروسية مبنيّة على ثلاث عوامل أساسية تعيق نجاح المسار الصيني "الحزام والطريق". أولاً: عدم انسيابية النقل عبر قناة السويس، والتي تعطلت فيها الملاحة البحرية مدة أسبوع إثر حادثة الناقلة اليابانية "إيف غرين". ثانياً، عدم استقرار الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، واستمرارها بؤراً للحروب والتوترات في كل من سوريا والعراق ولبنان وفلسطين وإسرائيل، وهي دول على تماس مباشر أو غير مباشر، مع المسار الصيني المعلن، ما يعني أن استقرار الأوضاع في هذه المنطقة لن يكون في صالح الرؤية الروسية الطموحة التي وصفها شويغو بأنّها، "فرصة للاندماج في شبكات الإنتاج العالمية بين أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ". ثالثاً، انهيار الحكومة الأفغانية وسيطرة طالبان على البلاد.

هذه التحديات الثلاثة الداعمة لـ"مسار الأرز"، تشكّل في الوقت نفسه عناصر متفجرة في وجه المسار "النظري"  للطريق الصيني، وعائقاً كبيراً قد تدفع بكين إلى إلقاء نظرة شاملة جديدة في ظل تراجع التدفقات المالية في الآونة الأخيرة، والتفكير في البديل الروسي كخيار متاح ووحيد في الوقت الحالي.

وبنظرة تجارية بحتة، يرى أحد خبراء الاقتصاد، أن يتجاوز الأوروبيين خلافاتهم السياسية مع روسيا لصالح حساباتهم التجارية، عندما تصلهم سلع وبضائع شرق آسيا خلال 18 يوماً بالقطار، بدلاً من تأخرها 6 أسابيع عن طريق البحر، لكن شهية القطاعات الأوروبية الساعية للربح السريع قد تصطدم بسياسات "الاقتصاد الأخضر"، ذات المعايير الصارمة لحماية المناخ والبيئة. فبينما تضع الحكومات الأوروبية خططاً للتخلص التدريجي من الفحم، ويتم إغلاق محطات الطاقة الأميركية التي تعمل بالفحم مع انخفاض أسعار الطاقة النظيفة، تنفق روسيا أكثر من 10 مليارات دولار على ترقيات السكك الحديدية العاملة على الوقود الأحفوري.
ويراهن بوتين على أن الحدود البرية لبلاده مع الصين والعلاقات الجيدة مع الرئيس شي جين بينغ تجعلها مرشحاً طبيعياً للهيمنة على الصادرات إلى الدولة التي تستهلك أكثر من نصف الفحم في العالم.

 وما يجعل رؤية بوتين أقرب إلى التحقق هو أنّ أستراليا، المصدّر الأول للفحم حالياً، تواجه قيوداً تجارية من الصين، (ويجري ذل) وسط نزاع دبلوماسي حول منشأ فيروس كورونا، والتوترات في بحر الصين الجنوبي، ودخول أستراليا في تحالف ثلاثي مع أميركا وبريطانيا في صراعهم مع الصين، وفي صراع النفوذ في المحيط الهادي.

التحديث الأساسي للسكك الحديدية الروسية ينصبّ على "مسار الأرز"، بتكلفته التي تصل إلى 9.8 مليار دولار، وهما خطّان، تاريخياً يتحدان في نقطة، الأول الخط الرئيسي العابر لسيبيريا في العهد القيصري، وخط "بايكال- أمور" السوفييتي الذي يربط غرب روسيا بالمحيط الهادئ. 

في السياق عينه يرى بعض الخبراء أنّ العديد من العوائق الاستراتيجية تعترض الرؤية الروسية في جعل "مسار الأرز السيبيري"  قلب التجارة العالمية العابرة للقارات. أبرزها، "أنّه مسار منافس لـ"الحزام والطريق"، لا بل مسار بديل عنه، وليس مساراً موازياً أو فرعياً، كما ترغب بكين". يضاف إلى ذلك أنّ، "بكين قطعت شوطاً في ثلاثة محطات في مسارها، وتحديداً الممر الباكستاني، ومحطة الحاويات في ماليزيا، وميناء هامبانتوتا في سريلانكا"، إضافةً إلى نشاطٍ صيني على جانبَي القارة الأفريقية على شكل استحواذٍ على موانئ، واحتكارٍ لتطوير البنى التحتية في عدد من دول القارة السمراء.

ويعتبر بعض الخبراء أنّ الطموح الروسي قد يخلط أوراق تحالفاتها في منطقتي الشرق الأوسط ووسط آسيا، بحيث يحرم عدداً من الدول الحليفة لها من عوائد تحديث البنى التحتية، أو إعادة الإعمار، وفي مقدمة تلك الدول  إيران، التي وقعت اتفاقاً استراتيجياً مع الصين لمدة 25 سنة، وتنتظر فرصتها لتحقيق مشروعها المؤجّل الذي أطلقه الرئيس هاشمي رفسنجاني، عام 1989  (قلب طريق الحرير)، والذي يربط إيران بالتجارة العالمية.

من الملفت أنّ العوائق والتأثيرات الجانبية على حلفاء روسيا وتوابعها، واضطرابات الشرق الأوسط التي تشارك فيها روسيا، والتوترات الناجمة عن سيطرة طالبان على أفغانستان بعد انسحاب واشنطن منها، تشكل ورقة رابحة للقطار السيبيري و"مسار الأرز"، فهل تبقى روسيا حليفاً استراتيجياً للصين، أم أنّها شريك غير مباشر في إعاقة تقدّمها؟