Advertise here

التّنوّع غنى

29 أيلول 2021 17:05:00 - آخر تحديث: 30 أيلول 2021 16:54:32

لبنان بلد التّنوع والتّعايش رغم اختلاف الأديان والطّوائف والمذاهب والمعتقدات والانتماءات والأحزاب. لكنْ، كيف يستفيد لبنان من هذا التّنوّع في ترسيخ ?لعيش المشترك؟ وكيف يستخدم خصوصيّته كمصدر قوّة يواجه فيه تحديّات العصر، أم كيف تجعله فرادتُه نقطة ضعف أو نقطة ارتكاز الطّائفيّة وتعزيز المذهبيّة. هل التّنوّع يجعل الحياة في لبنان نقمة أم نعمة؟ بعضهم يدعو إلى العلمانيّة، أيمكن للعلمانيّة أن تُطبَّق في مثل هذه التّحديّات الرّاهنة الّتي تواجه لبنان؟ أمُهَيَّأ لبنان أن يُطَبِّقَ العلمانيّة؟

من هذا المنطلق، ما هي العلمانيّة بالدّرجة الأولى؟ العلمانيّة هي مبدأ فصل الحكومة ومؤسّساتها والسّلطة السّياسيّة عن السّلطة الدّينيّة. حيث تقوم الحكومة دون أن تجبر أيّ أحد على اعتناق معتقد أو دين. كما لا تتبنّى الدّولة دينًا معيّنًا رسميًّا، فتكون قرارات الدّولة غير خاضعة لتأثير المؤسّسات الدّينيّة. كما لا تعتبر العلمانيّة جامدة لكنّها قابلة للتّحديث وَفق ظروف الدّول الّتي تتبنّاها، ويختلف تطبيقها ودعمها بين مختلف أنحاء العالم. تجدر الإشارة أنّ العلمانيّة ليست منافية للدّين بل تقف على حياد منه. نعود الآن إلى لبنان بلد التّعايش والتّنوّع كما نطقت به جميع الطّوائف الّتي تساوي ثماني عشرة طائفةً تؤمن بحرّيّة المعتقد وحرّيّة ممارسة الشّعائر الدّينيّة على مختلف أنواعها. فالدّين  ركيزة أساسيّة في المجتمع العربيّ أجمع والمجتمع اللّبنانيّ أوضح مثال. إذ بنا نرى العالم العربي ينكمشُ على نفسِه فيصابُ بشيءٍ منَ العقمِ نتيجةَ إسرافِهِ في بذلِ حيويّتِهِ في الشأن الدّينيّ. ونرى الشّؤون السّياسيّة تتعرقل حفاظًا على التّوازن الطّائفيّ وعلى التّمثيل الأقوى في البرلمان والحكومة وتوزيع الحصص والحقائب. تنفيذًا لقرار ستّة ستّة مكرّر، حيث  تحستب المناصب والمراكز والوظائف وَفق الطّائفة المتمثّلة، يبدو أنّ لبنان لم يتعلّم من الحرب الأهليّة الّتي جرّت عليه الويلات نتيجة مواجهات مذهبيّة. 

الطّائفيّة جعلت اللّبنانيّ يعاني حالة مرضيّة اجتماعيّة ووجوديّة. فهو يولد طائفيًّا، ويفكّر طائفيًّا، ويتصرّف طائفيًّا، ويحزن طائفيًّا، ويخاف طائفيًّا، ويفرح طائفيًّا،  ويتزوّج طائفيًّا، ويموت طائفيًّا. مراسم الولادة والزّواج والوفاة وتناول الطّعام طائفيّة بامتياز، حتّى انتقاء اسمه طائفيّ وشهرته ومسكنه ومكان إقامته وتوظيفه وكلامه ولهجته وطريقة عيشه طائفيّة، حتّى البضاعة الّتي يشتريها ويلبسها ويقتنيها طائفيّة. الطّائفيّة تدخل في خضم حياة اللّبنانيّ السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة والاقتصاديّة. 

النّظام الانتخابيّ والمصرفيّ والتّربويّ طائفيّ والاسم التّفضيليّ طائفيّ أيضًا. لقد أضحت الطّائفيّة الدّاء والدّواء، مأكلنا ومشربنا وهواؤنا ومصروفنا وعملنا ومصيرنا وشغلنا الشّاغل. فهي أداة حادّة تستعمل لتفريق اللّبنانيّين وتحريضهم، وعصا سحريّة تجمع اللّبنانيّين وتسوقهم على أساس التّوازن الطّائفيّ. قس على ذلك الموظّف في الوظائف الرّسميّة من الفئة الأولى إلى الفئة الخامسة، والمرشّح على المقاعد النّيابيّة والوزاريّة والنّادل في المطعم والقبطان في السّفينة والسّائق في الشّاحنة والمدقّق في لجان التّصحيح ورئيس اللّجنة التّربويّة والصّحيّة والنّقابيّة والبلديّة. حتّى القضاء والمحاماة والكتابة بالعدل كلّها تُطّبَّق على أساس التّوازن الطّائفيّ. 

فهل أوصلنا التّوازن الطّائفيّ إلى التّمثيل الصّحيح أم إلى التّفرقة والشّرذمة والاقتسام والانقسام؟ هل أوصلتنا الطّائفيّة إلى الفساد والأزمات والاحتكار والتّفلّت الأمنيّ وتدهور العملة وانهيار الاقتصاد؟ 

أين "لبنان الأخضر" الّذي غنّته فيروز؟ و"معليش يا لبنان" الّذي غنّاه وديع الصّافي؟ و"عَ لبنان لاقونا" الّذي غنّته صباح؟ "آه يا لبنان!" الّذي تغنّت به الشّاعرة الكويتيّة سعاد صبّاح؟ و"لبنان إن حكى" الّذي أبدعه الشّاعر سعيد عقل؟ و"رحلة إلى لبنان" حين زاره الكاتب المصري طه حسين والشّاعر العبّاسيّ المتنبّي؟ وغيرهم كثر من محبّي لبنان، و"لكم لبنانكم ولي لبناني" للكاتب المهجري جبران خليل جبران؟ و"لبنان" في أغاني نصري شمس الدّين وملحم بركات و"يا ستّ الدّنيا يا بيروت" الّتي ناجتها ماجدة الرّومي؟ وغيرهم كثر.

لماذا تحوّلُ الطّائفيّةَ لبنان المحبّة والألفة والتّعايش والتّنوّع إلى لبنان الأزمات: أزمة سكن وأزمة محروقات وأزمة عيش كريم وأزمة أمن غذائيّ وأزمة نقد ماليّ وأزمة أمن صحّيّ واستقرار أمنيّ وبطالة وفساد؟ 

يقال إنّ المصيبة توحّد الشّعوب. هذا ما حصل مع لبناننا المنكوب في حادثة الرّابع من آب العام الفائت حيث تضامن الشّعب اللّبنانيّ، وسارع لانتشال ضحاياه وجرحاه. لم يفرّق الانفجار بين مذهب ومذهب، وبين طائفة وطائفة. النّكبة طالت الجميع والقهر طال الجميع، والدّمعة سقطت على ابن وابنة طرابلس وبيروت والجنوب والشّمال والبقاع والجبل. النّكبة لم تستثنِ أحدًا. ونحن في خضمّ الأزمة، وفي أتون الانفجار كانت الأزمات تتوالى والبلد يغرق في أزمة مصيريّة. فهل نستفيق لإنقاذ ما تبقّى من لبناننا قبل فوات الأوان؟

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".