يبدو أن منحى، أو لِنقُلْ تياراً مقوضاً للتوجه الديمقراطي، يجتاح جمهوريات العالم العربي بعامة ودول المشرق بخاصة. موضوعنا هنا ليس المعوقات العديدة أمام التحول الديمقراطي في عموم الوطن العربي، إنما مصير الديمقراطية في الأنظمة والجمهوريات التي اختارتها عنواناً لها وواجهة حكمها، علماً بأن بعضها قرنها بأوصاف الشعبية والاشتراكية وغيرها.
بدايةً وحسماً لكل جدل، لا بد من الإقرار بأن الديمقراطية فقدت الكثير من جاذبيتها في المجتمعات الديمقراطية في الغرب وتكشفت مكامن ضعفها، مع الملاحظة الواجبة أنه لا بديل عنها والتنويه بصلابة مؤسساتها وقوة عزم مواطنيها على مكافحة خطط الالتفاف عليها والمثابرة على مداواتها من التطرف يميناً ويساراً وإصلاح الخلل عبر اعتماد المزيد منها. ولا بد أيضاً من الاعتراف بأن الديمقراطية ليست وليدة ساعتها ولا هي تُنقل آلياً، بل تتطلب زمناً وافياً للتجذر في النصوص كما في النفوس.
وما نحن بصدده الآن هو تراكم المؤشرات عن تراجع بقايا ديمقراطية برلمانية كانت موجودة كما الحال في لبنان، أو أخرى كان ظهورها واعداً مع الربيع العربي في أكثر من دولة كسوريا وفلسطين والعراق وتونس والسودان واليمن وغيرها.
فسوريا مددت استبداد نظام آل الأسد لولاية رابعة في فولكلور يحاكي الانتخابات وفي دولة مشلعة، جاوز عدد قتلى ثورتها نصف مليون والنازحون في الداخل والخارج تسعة ملايين. فلسطين ألغت أو لنفترض أنها أجّلت الانتخابات لتستمر السلطة الفلسطينية شبه غائبة عن الداخل والخارج في آن واحد، في مرحلة مصيرية لمستقبل شعب فلسطين والقضية برمّتها، ناهيك بأن حركات الإسلام السياسي لم تُظهر وداً للديمقراطية في أي مكان.
الانتخابات المبكرة في العراق والمقرر إجراؤها في العاشر من الشهر المقبل معرّضة للتأجيل أو التعطيل أو التزوير، ويدرك المتابعون والعارفون بخفايا السياسة العراقية أن مستقبل بقاء مصطفى الكاظمي مهدَّد بفعل أدوار الميليشيات المدعومة من إيران وسطوتها.
أما السودان الذي يمر بمرحلة انتقالية يتعايش فيها المدنيون مع العسكر، فها هو يشهد محاولة انقلابية ظهّرت تبايناً بين الفريقين. إلى هذا، تمر تونس بأزمة سياسية ودستورية علّقت معها جميع اختصاصات مجلس نواب الشعب، ورفعت الحصانة البرلمانية عن جميع أعضائه، ووضعت حداً لجميع المنح والامتيازات المسندة لرئيس مجلس النواب وأعضائه.
يبقى المثل الأبرز والأكثر إحباطاً لضمور الديمقراطية وتراجعها هو لبنان، البلد الذي لطالما تفاخر بأنه علامة مميزة في الوطن العربي باعتماده الديمقراطية الليبرالية البرلمانية ومبدأ فصل السلطات. فلبنان اليوم في خط انحدار وبات لدى الناس قناعة بأن الديمقراطية أصبحت ستارة للفساد والفاسدين كما للاعتداء على السيادة وسلطة الدولة وحكم القانون. لبنان صار يجاري الجمهوريات العربية التي اعتمدت عملية تعليب للديمقراطية ممعنة في تجويفها وتجفيف قيم المواطنة والحريات من مؤسساتها محوِّلةً إيّاها إلى هياكل عظمية، وأصبح لبنان أسيراً لما سماه زميلنا حازم صاغية هنا في «الشرق الأوسط» ما يحكم من فوق وما يحكم من تحت، وبالتالي يبدو أن من يحكم ويتحكم في النظام الديمقراطي هم من المعادين جهاراً للديمقراطية.
تجدر الإشارة في السياق نفسه إلى استثناءٍ هو المغرب، حيث جاءت نتائج الانتخابات كمؤشر تعافٍ ديمقراطي. لن نُدخل إسرائيل في اللائحة على الرغم من أنها تمكنت عبر التمسك بالرجوع إلى الناس، أي عبر الانتخابات، من التوصل إلى حكومة توافق قلبت سياسة بنيامين نتنياهو الرعناء بعد أكثر من عقد على توليه السلطة.
كل ذلك يحصل على وقع تطورين مهمين في المنطقة، الأول الخيبات التي ولّدها خفوت حراك الربيع العربي وما حصل جراءه من مآسٍ ونتائجها دون الخوض في مسبباتها في هذه المساحة. والآخر هو الانسحاب الأميركي السياسي والعسكري من المنطقة ومحاولات قوى دولية وإقليمية غير ديمقراطية التسلل إلى الفراغات التي خلّفها. وأبرز القوى المعنيّة هنا هي روسيا وإيران وحلفاؤها من منظمات خارج الدولة، وتركيا، والصين في جوانب غير أمنية حتى هذه الساعة. كلها دول تتجاهل المبدأ الديمقراطي الذي يقضي بترسيم لمواقع الموالاة والمعارضة ويؤكد على فصل السلطات وترسيخ المؤسسات الدستورية العدلية ومبدأ المحاسبة والمساءلة، وصون الحريات الفردية والجماعية.
وفي ظل هذه المتغيرات التي تعيشها المنطقة ودولها، استمعنا إلى خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي دعا فيه إلى «التركيز على التحدي العالمي من الأنظمة المناهضة للديمقراطية» والتطلع في الوقت نفسه إلى «حقبة جديدة من الدبلوماسية التي لا هوادة فيها»، مؤكداً أن أميركا هي «حليف موثوق للشركاء». لم يأتِ في خطابه على ذكر أي دور للقوة التي ينبغي أن ترافق الدبلوماسية لكي تصبح ناجعة وفعالة! علماً بأن حبر التسوية مع «طالبان» لم يجفّ بعد وما زال الركض الأميركي باتجاه استرضاء إيران للعودة إلى الاتفاق النووي مستمراً. كل ذلك يؤكد مرة جديدة غياب الرؤية المطلوبة لصالح الحريات والديمقراطية من أقوى دولة في العالم.
أن تُترك منطقة مثل الشرق الأوسط تواجه مصيرها بالوقوع تحت حكم التسلط تحت عناوين ديمقراطية جوفاء، وأن يضطر بعض دولها بل حتى نخبها إلى اللجوء إلى قوى بديلة لسد الفراغ الذي خلّفه الغياب الأميركي، لَهَو أمر يبعث على القلق العميق على مستقبل الإقليم وشعوبه لا سيما الأجيال الشابة. هذا لا يعني أن هذه الدول غير قادرة على حكم نفسها دون وصاية أجنبية، بل المشكلة تكمن في أن القوى والنخب المحلية التي تستولدها القوى غير الديمقراطية وتتولى الحكم وصناعة القرار تعاني من علتين: عدم المعرفة والخبرة، ما يولّد العلة الثانية وهي عدم القدرة على النجاح وحسن إدارة شؤون البلاد سوى بالاستبداد والتسلط. من شأن ذلك أن يؤدي إلى إطالة أمد الأحوال الظلامية السائدة في دول المشرق بخاصة، كما نشهد في لبنان وسوريا مروراً بالعراق وفلسطين واليمن وغيرها.
هل الأجيال الشابة المتأثرة حكماً بالحداثة والعولمة ووسائل التواصل الاجتماعي والتي قد تصل إلى السلطة مستقبلاً سوف تكون مختلفة؟ هل تجذبها القيم الديمقراطية وتصبح قادرة على إسقاط المنحى المتنكر لقيمها وآلياتها؟ لعلها مبعث التفاؤل والأمل الوحيد المتبقي في هذه المنطقة.