Advertise here

أأنا حرة أم هذه الشجرة؟

22 أيلول 2021 13:30:03

لم يعد التحديق في الأشجار هواية أتأمل فيها تلاعب النسيم بأغصانها، يراقصها ويداعبها، فتترنم بحفيف رقيق يسعد القلب ويحمله على جناح الحلم البعيد... لم تعد مراقبة الأشجار بتناغم ألوانها هواية ترصد تدرجات الاخضرار فيها والأزهار كما الثمار... إذ استحالت الهواية إلى سؤال هو ألف سؤال بسؤال... 

من الحرّ بيننا؟ أأنا أم هذه الشجرة؟ 

شجرة سرو هي، شجرة سنديان، شجرة صنوبر، شجرة تفاح، شجرة ياسمين... المهم أنها شجرة! أرقبها وترقبني، نقف في مواجهة بعضنا كصنمين لا يملكان من حوار بينهما إلاّ النظر... ولكن، أنا صنم أوتيت نعمة الكلام ومع ذلك، لا أملك لغة الحوار!

أتأمّل فيها، فإذا هي ملتحمة بالتراب، مجبولة بالانتماء إليه، إلى الأرض التي تحتويه، لا شأن لإرادتها هنا، فهي نبتت في هذه التربة، في هذه الأرض من دون أن تُسأل، قدر شاء وقدر قضى! أراها ترتفع في الهواء شاخصة نحو السماء، وما تدلى منها ليسترق النظر إلى الأرض فلأنه أثقل بالثمر أو بالزهر، أو لأنه شارف على فقدان الحياة. 

خضراء هي تتداخل فيها أسراب من تموجاته، هذا اللون الدال على اليقظة، وعلى التناغم مع حكمة الوجود في وجوده، ليعزف متبعًا هواه، متمايلاً متراقصًا جذلاً سكرانَ، لا شيء يعنيه، لا حدود لا قيود لا سجّان...

لا تنام ولا تتوقف عن التسبيح، ترانيمها صبح مساء، تؤنس وحشتي في كثير من الأحيان... وتؤنس الضباع وأبناء آوى في بحثهم عن الطعام، وترقص معهم رقصة الموت كذلك، حين تتحد معزوفتها مع عوائهم...

أتأمل فيها وأسأل: لم تنتظر الحطاب وهي تعلم أنّ ساعتها آتية؟ لم تنتظر النار وتعانقها إذا اقتربت وهي تعلم أنّ منها لا خلاص؟ لأنها شجرة، لأنها أسيرة التحامها بتربتها وانتمائها إلى أرض هذا التراب...

وأنا... أنا هذه الناظرة من على شرفتي إليها أو من خلف قضبان نافذتي أو أثناء تريضي في فيئها في بعض الأحيان... تتأملني هي فإذا بي كائن ملّ أن يحتار، أن يقف بين حدود التخوين والتخويف ووعيد النار... كائن يرتبط بالثرى الذي على أرضه ولد ونشأ، هذا الثرى الذي لم يختره وطنًا لولادته، بل القدر الذي قرر والقدر الذي قضى...  كائن يرنو الى السماء لكن ثقل هموم الآن في بلد صار قمة من ركام يجعله ينظر إلى الأرض حيث لا أفق ولا فرار... كائن يملك نعمة الكلمة ولكن أخرسته المصائب، كائن يملك ملكة التفكير ولكن قيّدته النوائب... كائن ذبحت أحلامه، واغتصبت أيامه، وصودر مستقبله، وشوّهت فيه الأحزان...

أتراها تشفق عليّ؟ أتراها تتأملني متسائلة هل أنتظر مثلها الحطاب والمقصلة والحديد والنار؟ لمَ لا أرحل وأنا لست شجرة؟

صحيح، أنا لست شجرة! يمكنني الانتقال والتنقل، يمكنني تغيير آرائي وتعديل مواقفي، يمكنني تغيير ولاءاتي، هواياتي، قراءاتي، ولكن... هل يمكنني تغيير مصيري في بلد رُسم لنا فيه المصير؟

قد تكون هي شجرة، لكنها لا تزال تجد قوتَها من دون ذلة، وتقف شامخة برأسها إلى السماء... وأنا الإنسان في وطن المذلة صرت أقل من شجرة، وصارت هي رغم التحامها بالتراب هي الإنسان!

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".