Advertise here

عن لبنان "الجديد": ترحم على القديم!

14 أيلول 2021 11:00:13

كُتب الكثير من التحليلات السياسيّة، وغير السياسيّة، عن واقع لبنان المريض والمأزوم. وذهبت بعض تلك التحليلات للقول بانتهاء لبنان القديم الذي عرفه العالم بأنه لبنان التعدديّة والتنوّع والحريّات العامة والنظام الاقتصادي الحر وصل إلى مرحلة الأفول التام، وأن ثمّة لبنان جديداً يشق طريقه وهو بطبيعته مغاير تماماً عن واقعه التاريخي.
الأكيد أن الصيغة اللبنانيّة الراهنة قد تعرّضت لتشوهات كبرى في الممارسة، وثمّة من كان يفاخر بأنه يعدّلها في الممارسة حتى ولو كان هذا التعديل الوضعي مغايراً للدستور ومنافياً لأحكامه، لا سيّما أن أحكام اتفاق الطائف أصبحت جزءاً من الدستور اللبناني، وبالتالي مخالفتها هي مخالفة للدستور.
ليس هذا السلوك مستغرباً في ظل انعدام الثقافة الدستوريّة عند قوى معيّنة ترتكز في أدائها وسلوكها إلى القليل من العقلانيّة والكثير من العبثيّة. إنّها العبثيّة ذاتها التي خيضت بسببها الحروب الواهية والمدمرة، والتي عُطلت في سبيلها الحكومات والمجالس النيابيّة وسائر مؤسسات الدولة الضعيفة أساساً.
ليس ثمّة اتفاقات مقدّسة في السياسة، واتفاق الطائف ليس استثناءً، فلكل اتفاق سياسي نهاية في زمنٍ ما ولحظة ما. إذا كانت لحظة إعلان وفاة اتفاق الطائف قد حانت، فالخطورة تكمن في غياب التفاهم السياسي على العقد الاجتماعي البديل الذي يمكن من خلاله العبور نحو الدولة القوية والعادلة التي لا تميّز بين مواطنيها على أسس طائفيّة ومذهبيّة والقادرة على توفير مقومات العدالة الاجتماعيّة المفقودة عمليّاً منذ قيام دولة لبنان الكبير سنة 1920.
ولكن، من الذي قال إن البديل المرتقب عن اتفاق الطائف سوف يؤمّن هذه المقومات؟ ومن الذي قال إن الحقبة المقبلة التي قد تشهد دفن الاتفاق لن تشهد حالة من الفوضى السياسيّة تعززّها حالات العبثيّة وتكرسّها المشاريع المحليّة ذات الارتباطات الإقليميّة (التي بالمناسبة تتخذ من العبثيين مطيّة لجدول أعمالها لا أكثر ولا أقل)؟ ومن الذي قال إن لبنان «الجديد» سيكون أفضل من لبنان الحالي، رغم كل كبواته وعثراته؟ ماذا عن عروبة لبنان؟ ومن يضمن الحفاظ على هذه الهويّة في العقد الجديد؟
إن الحفاظ على الهويّة العربيّة للبنان هو حجر الزاوية لأي تغيير مستقبلي، وإلا فإن القفزة المرتقبة لا تعدو كونها مغامرة خطيرة ستقضي على موقع لبنان في محيطه العربي، وستدفعه إلى مزيد من الارتماء في الأحضان الخارجيّة التي لها مشاريعها ومخططاتها وأعمالها الفئويّة الخاصة التي لا تتلاءم حتماً مع طبيعة التركيبة السياسيّة والمجتمعيّة اللبنانيّة.
صحيحٌ أن النظام الاقتصادي اللبناني القديم عانى ما عاناه من تشوّهات هيكليّة عميقة أدّت إلى إشاحة النظر عن قطاعاتٍ أساسيّة منتجة مثل الصناعة والزراعة لمصلحة قطاعات الخدمات والمصارف والسياحة التي تهتز عند المنعطفات الخطرة وتنهار أمام التحديات الكبرى (كما هو الواقع حاليّاً). وصحيحٌ أن ثمّة حاجة ملحة لإبلا بناء مقارباتٍ جديدة تماماً يمكن من خلالها إعادة النهوض بالاقتصاد الوطني وفق أسس ومرتكزات مختلفة نوعياً عن المرحلة السابقة.
لكن يبقى الأهم هو ألا يتم القضاء على ما تبقى من دور لبنان الذي تآكل بفعل تراجعه الاقتصادي الكبير إلى أن كانت الضربة القاضية من خلال انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) 2020 الذي دمّر أجزاء واسعة من العاصمة وأفقد الميناء دوره التاريخي الطليعي في لبنان والمنطقة كهمزة وصل بين الشرق والغرب.
إن تغيير الوظيفة الاقتصاديّة للبنان بات ضرورة من زاوية كسر الاحتكارات والوكالات الحصريّة وإيلاء الاهتمام الكافي لقطاعات الصناعة والزراعة وتكنولوجيا المعلومات التي يملك فيها لبنان موارد بشريّة مهمة (قبل موجة الهجرة الأخيرة طبعاً)، ولكن ليس في سبيل تحويله إلى محطة لتصدير الكبتاغون والمخدرات وتدمير علاقات لبنان العربيّة.
إذا كان المطلوب جنوح لبنان نحو تحوله إلى منصة متقدمة للتهريب والتجارة السوداء وتوفير الدعم لأنظمة الدول المجاورة في الوقت الذي بالكاد يملك القدرة على إدارة اقتصاده، فإن البلاد أمام مخطط خطير يستهدف ما تبقى لها من موقع ضعيف في العالم عموماً والعالم العربي خصوصاً.
باستطاعة لبنان العودة إلى تاريخه في الانفتاح على العالم، وفي أن يكون مركزاً متقدّماً في مجال الحريّات العامة والثقافة والفكر والأدب، بالتوازي مع اقتصاد رشيق ونوعي يتركز على توفير مناخاتٍ ملائمة للاستثمار والتوظيف وخلق فرص العمل بما يحقق إعادة التعافي إلى المجتمع الذي ذاق الأمرّين خلال العامين الماضيين بعد تدهور سعر العملة الوطنيّة وتقهقرها أمام العملات الأجنبيّة ما ولّد التضخم الهائل وساهم في السقوط السريع للبلاد.
التغيير ممكن، شرط عدم تعطيله من قوى العبثيّة والولاءات العابرة للحدود.