Advertise here

حكومة ميقاتي... الإصلاحات ثم الإصلاحات

13 أيلول 2021 11:46:47

شُكِّلت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بعد خمسة وأربعين يوماً على تكليفه بناء على استشارات نيابية ملزمة، وبعد ثلاثة عشر شهراً من التجاذبات السياسية والرهانات المحلية والإقليمية والدولية التي أعقبت استقالة حكومة الرئيس حسان دياب، والتي اعتذر خلالها كل من السفير مصطفى أديب والرئيس سعد الحريري عن التأليف.

ومن الواضح أن هذه الحكومة قد جاءت بتوافق إيراني - فرنسي وقبول اميركي مبني على البراغماتية الاميركية وعلى التوجهات الجديدة لإدارة الرئيس بايدن في العديد من ملفات الشرق الأوسط، كما جاءت بتوافق داخلي. أما تركيبتها فمن الواضح أنها أتت انعكاساً لموازين القوى المحلية والإقليمية الحالية، والتي من المتوقع أن تتأثر بها العديد من القرارات، لاسيما تلك المتعلقة بالملفات الإصلاحية التي ستعرض على جداول أعمال الحكومة.

لا بد من الإقرار بأن تشكيل الحكومة لاقى ارتياحاً محلياً لدى معظم اللبنانيين وتعززت الآمال، وإن بحذر، بإمكانية وقف الانهيار المالي والتخفيف من أعباء الأزمة الاقتصادية على الصعد كافة. وإذا كان من المبكر الحكم على إمكانية الحكومة الحالية استعادة الثقة على المستويين المحلي والدولي من خلال برنامج إصلاحات واعدة، فإن المخاوف والمحاذير تأتي أولاً من عمر هذه الحكومة "القصير نسبياً" والذي لن يتعدى أيار المقبل موعد إجراء الانتخابات النيابية، بالمقارنة مع حجم الملفات والتحديات المطروحة للمعالجة، وثانياً من الوقوع مجدداً في فخ التجاذبات والخلافات التي عطلت فعالية الكثير من الحكومات السابقة، حيث أن الائتلاف الحكومي القائم حالياً كغيره من الائتلافات الحكومية السابقة، لا يقوم على الثقة بين معظم أطرافه ولا على رؤية موحدة حول اسباب الأزمة وسبل معالجتها، كما أن القوى التي كانت تقف وراء تعطيل الكثير من محطات الاصلاح تحتل موقعاً وازناً في تركيبة هذا الائتلاف.

من جهة اخرى، فإن خارطة الطريق لاستعادة الثقة على المستوى الدولي معروفة ولا تحتاج للتفسير والتأويل، وتتمثل بالإصلاحات ثم الإصلاحات، وإن هامش المناورة لهذه الحكومة للتهرب من هذا الاستحقاق معدوم كلياً قياساً بالهوامش والمناورات التي تمتعت بها الحكومات السابقة منذ مؤتمرات باريس حتى مؤتمر سيدر. في هذا الاطار، من المفترض أن تشكل ورقة باريس المؤلفة من أربعة محاور البيان الوزاري للحكومة وبرنامج عملها، وفي مقدمة الاصلاحات التي وردت في هذه الورقة يأتي قطاع الكهرباء حيث "يتعين خلال شهر تعيين الهيئة الناظمة في إطار القانون 462/2002 من دون تعديلات وإطلاق استدراجات عروض في ما يتعلق بمعامل توليد الكهرباء بواسطة الغاز، والتخلي عن مشروع سلعاتا بصيغته الحالية والاعلان عن جدول زمني لرفع التعرفة بطريقة تدريجية". 

لذلك وانطلاقاً من أهمية هذا الإصلاح على الصعيدين المالي والاقتصادي فضلاً عن دوره في استعادة الثقة على المستويين المحلي والدولي، فإن السؤال المطروح يتعلق بتوفر الإرادة السياسية لدى أهل الحل والربط في هذا القطاع، الحاضرين بقوة في تركيبة الحكومة الحالية، للإفراج عن الاصلاحات الهيكلية المطلوبة، وذلك في إطار المناخ الذي وفره الضوء الأخضر الاميركي لاستجرار الغاز والكهرباء من مصر عبر الأردن وسوريا. طبعاً، وعلى قاعدة التجارب السابقة المريرة، لا أحد يستطيع الاغراق بالتفاؤل قبل معرفة النوايا والرهانات الحقيقية، ولعل الشهر الأول من عمر الحكومة بعد نيلها الثقة يصبح الحكم على الأفعال أكثر دقة، لمعرفة مدى الالتزام بإصلاح قطاع الكهرباء الذي شكّل أحد أكبر الأعباء المالية على الدولة والذي قاد مع غيره من العوامل الى هذا الانهيار المالي، الذي وصفه البنك الدولي بأنه من بين أسوأ ثلاث أزمات مرت على العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى اليوم.

ومع أهمية المحاور الأخرى المطروحة في الورقة الفرنسية، بدءاً من الاستمرار بمواجهة جائحة كوفيد 19 والإسراع في تعميم اللقاحات، الى انهاء التحقيق بانفجار المرفأ واطلاق إعادة إعماره، وغيرها من القضايا مثل تحقيق استقلال القضاء ومكافحة الفساد وإعداد دراسة حول الإدارة العامة، فإن استعادة الثقة على المستوى الدولي تكمن بشكل اساسي في تبني خطة الإصلاح المالي التي تقتح الطريق للتفاوض مع صندوق النقد لفتح باب المساعدات المالية من الصندوق وغيره من المؤسسات المالية الدولية. وفي هذا المجال، لا تزال الذاكرة حية حول التجاذبات التي رافقت روايات الارقام المتعددة في خطة الحكومة المستقيلة واقتراحات توزيع الخسائر، الأمر الذي يقود الى بناء تفاؤل حذر مبني على رهانات الأطراف المعنية في هذه العملية، حيث ظهرت الدولة في ذلك الوقت أضعف الأطراف المشاركين في الحلبة التي تشمل طبعاً تحالف مصرف لبنان والمصارف الحريص على التبرؤ من الخسائر وتحميلها للدولة والمودعين، كما تشمل المستشارين وخططهم ومن وراءهم والذين اعتقدوا أن الساعة اقتربت للذهاب الى الشرق، وأن وظيفة لبنان الاقتصادية قد اصبحت من عالم مضى، وأن التحقيق الجنائي يشكل المقصلة التي طال انتظارها لبناء ميزان قوى مالي واقتصادي جديد يترجم ميزان القوى السياسي الذي تحقق من خلال مقايضة السيادة بالنفوذ الداخلي ومن خلال سياسة خارجية وضعت لبنان في مواجهة عمقه العربي الطبيعي. 

في الواقع لا احد يستطيع التكهن بأن رهانات الأطراف المعنية هذه والتي أدت الى فشل المفاوضات مع الصندوق الدولي قد تغيرت بشكل جذري، وأن القناعات السابقة قد زالت بين ليلة وضحاها لتفتح الطريق نحو إصلاح هيكلي مالي واقتصادي. على أي حال، من المؤكد أن الظرف قد تغير، وأن سياسة شراء الوقت واللعب على حافة الهاوية من اجل المقايضة وتحقيق مكاسب سياسية لم تعد ممكنة، وأمام الحكومة تحديات كبيرة جداً بدءاً بوقف الانهيار ومواجهة أزمات المحروقات والدواء والغلاء والتضخم والبطالة وتعدد أسواق الصرف والإسراع في إعطاء البطاقة التمويلية وحماية ما تبقى من ودائع المواطنين في المصارف، لذلك وبناء على التفاؤل الحذر نفترض أن التسوية التي رافقت تشكيل الحكومة تستمر صلاحيتها للضغط باتجاه تحقيق الاصلاحات المطلوبة وفتح الطريق نحو المساعدات الدولية، وعليه فإن مقاربة الحكومة باستغلال الوقت وإظهار التضامن الحكومي واتخاذ القرارات الصعبة في الاشهر القادمة، هي الوسيلة الوحيدة لقياس صلاحية استمرار التسوية ومدى امكانية وقف الانهيار .

(*) استاذ الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية- كلية الحقوق والعلوم السياسية والادارية