تبدو خلف غبار الهياج الدولي الراهن ملامح تسويات من نوعٍ جديد، وقد تعيش مفاعيلها طويلاً. وبصرف النظر عن مدى شمول هذه التسويات لكل زوايا الصراعات القائمة او لا؛ لكن المؤكد أن التوترات العصية على الحل، والتي ستبقى الى زمنٍ طويل؛ تعيش تحت سقف مصالح الدول الكبرى، وهي احياناً تتأمن في ظروف الإضطراب أكثر مما تتأمن في ظروف الإستقرار. ومن الواضح أن توزيع أدوار وتمريك سياسي من الطراز الحديث يحصل بين اقطاب الصراع الدولي ومعهم الدول الإقليمية المؤثرة على الساحة الآسيوية وفي شمال أفريقيا. والولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين وفرنسا ومعهم ايران وتركيا واسرائيل أمام بازل سياسي وأمني ونفطي واسع، وبعد إنسحاب أميركا من أفغانستان؛ ليس من السهل إعادة صفصفة لوحة الفسيفساء بما يتناسب مع مصالح كل من هؤلاء المتنافسين في مشهدية واحدة، خصوصاً لكون الدول العربية التي غابت عن التأثير على المشهد لفترة طويلة - وهي ساحة أساسية لميدان العراك - تعود للظهور على المسرح، وتطالب بمقعدها المتقدم في قطار التسويات الجارية. فهل ينجح العرب في إعادة فرض دورهم؟ وهل يفلحوا في وقف الإستباحة الخارجية للأرض العربية في أكثر من مكانٍ وموقع؟
الحراك المصري والعراقي الجديد يُشكل نواة قوة إعتراضية مؤثرة على الوقائع القائمة، ويلعب ملك الأردن عبد الله الثاني دوراً محورياً في تنظيمة الإندفاعة الجديدة، بينما دول الخليج التي زادت من حجم قوتها الإقتصادية والسياسية، ما زالت تحت وطأة تأثير الصراع اليمني الذي يستنزف المقدرات، ويهدد الإستقرار، لكن مشهدية إجتماع قمة بغداد التي انعقدت في 28 آب ( أغسطس ) المنصرم، وحضرها قادة من مصر والكويت والأردن والإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين والمملكة العربية السعودية، إضافة الى الرئيس الفرنسي امانويل ماكرون ووزيري خارجية ايران وتركيا؛ وضعت الأمور في نصابها، على اعتبار أن المكونات العربية تبحث عن التعاون مع الدول الكبرى ومع القوى الأقليمية المؤثرة، ولكنها لا تتسامح مع الإستباحة الخارجية للأقطار العربية، ولا بالتدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول، وهذه الإستباحة لا تبررها المقاربات التوسعية التي تعتمدها ايران وتركيا في كون البلدان الكبيران الجاران لهما حضور تاريخي او عقائدي في هذه الدول، ومن حقهما المشاركة في رسم مستقبل منطقة الهلال الخصيب العربي على أقل تقدير، في وقت تستفيد اسرائيل من هذه التدخلات للتمادي في فرض سياسة القضم والعدوان على فلسطين.
الدور الذي يقوم به رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي يدفع بالطموحات العربية نحو آمال جديدة، نظراً لأهمية العراق في التوليفة الجيوسياسية العربية، ولأن تراجع الدور العراقي في المرحلة الماضية أضعف الأمن القومي العربي برمته، وقد حوَّلت السياسة الأميركية بلاد ما بين النهرين الى ساحة مفتوحة للطموحات الإيرانية التي بدورها جعلت من العراق قاعدة متقدمة لمشروعها العقائدي والأمبراطوري، بدل أن يكون حاجزاً يحول دون تمدد هذه الأفكار وتلك الطموحات الى دول المشرق العربي. وكان واضحاً الإمتعاض الإيراني من قمة بغداد من خلال التجاوزات البروتوكولية التي افتعلها وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، ومن ثمَّ إنتقاله من بغداد الى دمشق للتعبير عن اعتراضه على عدم دعوة هذه الأخيرة للقمة، كما أن تواصله مع النائب اللبناني جبران باسيل صهر رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحر من هناك؛ يشكِّل نوع من أنواع الإلتفاف على مقررات قمة بغداد، وتأكيد على استمرار التدخل الإيراني في شؤون دول المنطقة، ووقد تكون أحد أهداف الإلتفاف؛ صرف الأنظار عن التوجهات السيادية الجديدة التي تندفع اليها القيادات العربية، لا سيما خطوات رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي الذي نجح في الخروج من الطوق الإيراني الموضوع حوله بواسطة غالبية مجموعات الحشد الشعبي، وانطلق بتغطية من مرجعية النجف الأشرف الى نقل العراق من وضعية الساحة الأمنية المُتفلتة التي عاش فيها منذ سنوات عديدة الى حالة البلد الجامع والمتطور والفاعل على الساحتين العربية والدولية.
من الواضح أن الرؤى العربية الجديدة تعمل على تحصين الأمن القومي العربي الذي استباحته التدخلات الخارجية الى حدود متقدمة، وهذه الرؤى تستند الى تعاون اقتصادي وثقافي وأمني تحتاجه كل الدول العربية المعنية. وما يجري من تعاون بين المملكة العربية السعودية والعراق في هذا السياق، يأتي استكمالاً للخطط التي وضعها التعاون المتواصل بين العراق وكل من مصر والأردن، خصوصاً في مجال الربط الكهربائي واتفاقيات النقل البري والبحري والجوي التي تُسهل إنتقال مختلف أنواع السلع التجارية، بما فيها النفط والغاز.
الإشتباك السياسي الذي ما زال قائماً بين بعض الدول العربية على خلفية الموقف من أحداث سوريا وتهجير نصف شعبها، ومن الصراع الصحراوي في المغرب العربي؛ يمكن أن يتحول الى تباين سياسي عادي قيد المعالجة، وغالباً ما تحصل مثل هذه التباينات الى أن يحين موعد تسويتها بما يضمن مستقبل شعوب هذه الدول، لكن المؤكد أن استمرار غياب الدور العربي لم يعُد مقبولاً على الإطلاق، والإندفاعة الجديدة التي ترافق الحراك في المشرق تُبشِّر بعودة القوة الدافعة للموقف العربي الذي يستحيل من دونه عقد الصفقات او اجراء اي تسويات لها آثارها على مستقبل المنطقة