كان الرئيس الجنرال فؤاد شهاب (1958-1964) حين يدخل غرفة جلوسه في منزله الخاص في جونيه يحرص على أن يتطلع إلى لوحة "مبروزة" معلقة على صدر الجدار. لم تكن تلك اللوحة من فئة اللوحات الفنية ذات الشهرة التاريخية في القصور والمتاحف، إنما كانت صفحة مطبوعة بأحرف بارزة تمكن الناظر إليها من قراءتها بسهولة من قرب.
كانت نسخة عن خطاب القسم الذي قرأه الجنرال شهاب على منبر مجلس النواب يوم إنتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية.
قليلاً كان عدد الزائرين الذين كان يصادف إستقبالهم في تلك الغرفة "الخاصة". وإذا لاحظ الرئيس أن الزائر ينظر إلى "اللوحة" يبادره بالإيضاح: لقد أقسمت بالله وبشرفي مرتين: الأولى يوم تسلمت سيف التخرج في المدرسة الحربية، والثانية يوم إنتخبني نواب لبنان رئيساً للجمهورية؟
هل وفى الرئيس شهاب بذلك القسم؟...
لم يطرح أحد هذا السؤال عليه. لكن الرئيس العسكري – المدني – كان مرتاح الضمير. فقد جاهد للوفاء بما أقسم عليه. لم ينقل سكنه إلى القصر الجمهوري. بل ظل مع زوجته (الفرنسية الأصل) في المنزل العائلي الموروث من والدته في جونيه، ولم يبدل نمط حياته. كان يذهب إلى القصر الجمهوري مثل الموظفين، ويعود إلى البيت بعد إنتهاء الدوام، فيكون الغداء (كما العشاء) جاهزاً في "مطبقية" تأتي من مطعم "النادي العسكري".
كان الرئيس الجنرال شهاب يعرف أن علة الدولة اللبنانية في إدارتها، لذلك لم يبدأ الإصلاح حسب تقارير المفتشين عن الموظفين، إنما عكف على بناء الاسس والمداميك لدولة عصرية، وجاء بنخبة خبراء لبنانيين وفرنسيين، وبلجكيين، وكشف حال الدولة اللبنانية وإمكاناتها أمامهم، وترك لهم الوقت للبحث، والدرس، والتخطيط والتصميم وصولاً إلى اعداد مجسم الإدارة الحديثة، فكانت المرحلة الاولى قائمة على: مجلس الخدمة المدنية – ديوان المحاسبة – البنك المركزي – التفتيش المركزي – المشروع الاخضر – مصلحة الانعاش الاجتماعي.
لم تكن الدولة اللبنانية في ذلك الزمن تشكو العجز المالي إذ لم تكن مديونة بدولار واحد، إنما كانت دولة خدمات، وغير عادلة بين المناطق والمدن والارياف، خصوصاً في مصالح المياه والكهرباء، لذلك وجه الرئيس شهاب إهتمامه إلى المناطق المحرومة من تلك المصالح، وهو لم يعتمد فقط على اللجان التي تتألف لاجراء "مسوحات" وإعداد خطط ومشاريع، إنما أراد أن يختصر مهمات الخبراء، فطلب من قيادة الجيش تجهيز طائرة هليكوبتر ليلية لاستكشاف أوضاع الكهرباء في المناطق والارياف البعيدة والمهملة، وهو إستعان بخبير إنمائي مزوّد بخرائط تلك المناطق جلس إلى جانبه في الهليكوبتر وراح يطوف فوقها في الليالي المظلمة، ليلة بعد ليلة، من كسروان إلى الشمال، حتى الحدود مع سورية، ثم يدور فوق جرود البقاع، على الجنوب، وجبل لبنان.
الاضواء كانت تكشف حال المناطق المحرومة في الأرياف... كان الخبير الانمائي الى جانب الرئيس في رحلات الاستكشاف الليلية على الخريطة الطبيعية: هذه مدن ومصايف وشواطئ في كسروان مشعشعة، وهذه بلدات في جرود جبيل (على القنديل) وهكذا في البقاع، وجبل لبنان، والجنوب، وعلى دار الخريطة اللبنانية.
وبعد كل جولة ليلية كان الخبير الانمائي يعكف على اعداد تقرير شامل عن وضع كل منطقة محرومة من الكهرباء، ومن المياه الصالحة للشرب.
كانت "بعثة إيرفد" الشهيرة قد تولت مشاريع الانعاش والانماء الاقتصادي والزراعي، وكانت بعثة "الاب لوبريه" الفرنسي الخبير في الشؤون الإدارية والإنمائية.
وإذا تكاملت قواعد وأسس "الدولة الحديثة" لم يعكف الرئيس الجنرال على اعداد "الدولة السياسية الديموقراطية" إنما ذهب الى بيته لاعداد كتاب إستقالته من الرئاسة، وكانت مضت سنتان فقط من ولايته... ولم تكن مناورة، بل كانت قراراً أراده الرئيس حاسماً بالصوت والصورة عبر التلفزيون والإذاعات، لكن ما جرى تلك الليلة فاق التصوّر. فقد توجهت وفود الكتل النيابية الموالية والمعارضة إلى منزل الرئيس في جونيه، وكان في الطليعة كمال جنبلاط ونواب الجبهة الإشتراكية – الوطينة، وكانت جبهة المعارضة، وقطبها العميد ريمون اده، وكان الرئيس المستقيل في اللباس البيتي...
وفي تلك الليلة أعيد انتخاب فؤاد شهاب بالالزام الوطني، ولم يتستطع البقاء على قراره، فعاد عن الاستقالة وأكمل مدة رئاسته، لكنه رفض بالمطلق تجديد الولاية، وهو إن بذل جهوداً جبارة لتحقيق الإصلاح الإداري والوطني على قواعد عصرية ثابتة، غادر منصب الرئاسة إلى بيته لينكفئ بضع سنوات قبل أن ينطفئ، وهو كان قد بذل جهده لتأمين الكهرباء والمياه، مع الاصلاح، لجميع المناطق اللبنانية.
الإصلاح...الإصلاح... كلمتان راسختان في عروق الدولة اللبنانية، رؤساء، وحكومات، ووزراء، ونواباً، وإعلاميين، وجمعيات، وهيئات وطنية، واكاديمية، ولا نتيجة إيجابية، على مدى رئاسات وعقود، وعهود.
وقبل يومين بالتمام، كان الرئيس الجنرال ميشال عون يستقبل المجلس التنفيذي الجديد للرابطة المارونية، وكانت علة الإدارة اللبنانية حاضرة بثقلها، وكان الرئيس عون يشكو من "ترسبات ورثناها منذ العام 1990، ونحن نعاني منها، وهمنا الاول إزالة آثارها، فوحده ملف الكهرباء رتّب على خزينة الدولة أكثر من أربعين مليار دولار، وسببه الاساسي الكيد السياسي"!
هذا الرقم يعادل تقريباُ نصف ثقل الدين العام الجاثم على صدر الشعب اللبناني، وليس على صدر الدولة اللبنانية، فالدولة، بجميع مؤسساتها الرسمية "ماشية"... إلى أين؟... لا الرئيس يعرف، ولا الحكومة.
لكن المواطن يعرف: البلاد، يعني عامة الشعب، ماشية نحو الهاوية التي يحذر منها الجميع... أما الآخرون، يعني الدولة ورجالاتها... فانهم "مضمونون..."!
وفي الاسطر التالية عينة من الفساد الذي يرتكبه الموظفون الصغار، وهم لا يدرون أنه "جرم".
ففي المحكمة العسكرية الدائمة برئاسة العميد حسين عبدالله إستجوب مرافق النائب العام التمييزي القاضي سمير حمود، الرقيب (ع.أ) في الجرم المنسوب إليه، القيام بالتماس أجر غير واجب في العدلية بقصد التأثير في مسلك السلطات، مخالفاً بذلك التعليمات العسكرية...
"وقد أفاد المدعي عليه أنه كان يقدم بعض الخدمات إلى معارفه وأصدقائه، كتسهيل مهمة دفع ضبط مثلاً، ويحصل في مقابلها على قسائم بنزين، او هدايا للعائلة، مشيراً إلى أنه كان يجهل أن هذا الامر يشكل جرماً يعاقب عليه القانون!!
قسيمة بنزين (15 ليتراً مثلاً) أو هدية (لعبة أطفال، او علبة معمول مثلاً) تعتبر جرماً يعاقب عليه القانون... هذا ما كان يجهله الرقيب الطيب القلب!
أما الاربعون مليار دولار، من أصل المئة مليار دولار، المتراكمة على صدر اللبناني، والناتجة عن لمبة كهرباء مطفية، فهنا على الدولة والشعب اللبناني لتأمين فاتورة إشتراك "الموتور" قبل فاتورة الدكان، وقسط المدرسة، وإيجار البيت!
إنها لمبة الدولة المحروقة!