Advertise here

جدليات أفغانستان بعد الانسحاب

27 آب 2021 08:03:01

هناك إجماعٌ أميركي على أن قرار الانسحاب من أفغانستان، الذي اتُّخذ أيام أوباما، وتأكد أيام ترامب، وتنفذ أيام بايدن، كان صحيحاً ولا يزال، ويخدم مصالح الولايات المتحدة. لكنّ هناك إجماعاً أيضاً على سوء طريقة الانسحاب ولجهتين: هول المشاهد في مطار كابل وما حوله، وسقوط سلاح كثير وكبير بأيدي حركة طالبان، ومن معسكرات الجيش الأفغاني، أكثر من معسكرات الجيش الأميركي والحلفاء، والأمر الثالث عدم التشاور مع الحلفاء الذين قاتلوا مع الولايات المتحدة طوال عشرين عاماً ولجهات: التخطيط المشترك حتى لا يتحول الأمر إلى هزيمة تشبه الهرب، والتفكير معاً بالمصائر الاستراتيجية لأفغانستان والمنطقة، والتفكير معاً بمشكلات اللاجئين التي تبدو متفاقمة الآن، لكن المقدر أن تستمر لعدة سنوات.

يبدو البريطانيون – بعد الأميركيين - هم الأكثر جزعاً للسببين الأولين: افتقاد التفكير المشترك بآليات الانسحاب، والتفكير المشترك أو غير المشترك بالمصائر الاستراتيجية. أما الفرنسيون والألمان فتشغلهم قضايا اللاجئين لكنهم يتشاركون في ذلك مع أطرافٍ لا يتشاورون معها حتى الآن مثل تركيا وإيران وحتى الهند... وباكستان!

وإذا تجاوزنا الحركات الإسلامية الإخوانية وغير الإخوانية التي تُظهر شماتة وإحساساً بالانتصار؛ فإن الدولتين اللتين تُظهران طمأنينة وأملاً بالمستقبل هما باكستان والصين... وتأتي بعدهما تركيا، التي تقيم من جهة سوراً على حدودها مع إيران لمنع دخول المزيد من اللاجئين الأفغان، وتأمل من جهة أُخرى في الاستثمارات، وفي أن يكونَ لها دورٌ وسيط بين أميركا و«طالبان»!

وفي عودة للولايات المتحدة؛ فإن مجلة «فورين بوليسي» تُظهر تخوفاً كبيراً من العلاقات «الوثيقة» التي تراها قائمة بين «طالبان» وإيران. فقد قتلت مسيّرة أميركية خليفة الملا عمر الأول، الملا منصور، على الحدود عندما كان عائداً من إيران. ومن سنوات تقدم إيران التدريب والعتاد لـ«طالبان».

لكنّ محرراً آخر بالمجلة نفسها يلاحظ أن الطالبانيين في فترة حكمهم الأولى (1996 - 2001) كانوا شديدي العداء للشيعة ولإيران، وأنهم عندما هاجمتهم الولايات المتحدة هم و«القاعدة» عامي 2001 و2002 - وبخلاف «القاعدة» - انسحب أكثرهم باتجاه المرتفعات الجبلية في الحدود مع باكستان، وأن مئات الآلاف من الشيعة الأفغان ظلوا يهربون باتجاه إيران، التي استخدمت آلافاً من شبانهم مرتزقة بسوريا بقيادة «الحرس الثوري»، وبأسماء مثل الفاطميين والزينبيين. وبالطبع كانت إيران في دعايتها تُظهر استحساناً لحرب «طالبان» ضد الأميركيين، بينما تدل كل الشواهد على أن الهزارة ما ارتاحوا في تاريخهم الحديث في أي فترة مثل فترة الاحتلال الأميركي للبلاد!

وهناك اهتمامٌ أميركي بالعواقب الاستراتيجية للانسحاب، والجهات التي قد تستفيد منه مثل الروس والصينيين. لكن الظاهر أن هناك صمتاً صينياً (استراتيجياً إذا صح التعبير) بعد أن زار وفدٌ من «طالبان» الصين قبل شهرين، واستُقبل باحتفاء شديد. وقد قال مسؤول طالباني، قبل أسبوع، إن أفغانستان سيكون لها صديقان كبيران هما الصين وتركيا!

وكما يصمت الصينيون ويترقبون المغادرة الأميركية، يصمت الإيرانيون كذلك، وأرى أنهم في الموقف الحالي يريدون اتقاء الشر أكثر مما ينتظرون الكسب!

أما الأشد اضطراباً حتى أكثر من البريطانيين فهم الروس. هم يصدرون تصريحات متناقضة كل يومٍ تقريباً. فوزير الخارجية لافروف يبشر بمقاومة وادي بنجشير بزعامة أحمد شاه مسعود لـ«طالبان». والرئيس بوتين يقول تارة إنه لا ينبغي على «الغرب» أن يفرض قيمه المستوردة على الأفغان! ثم يقول إنه لن يتدخل عسكرياً في أفغانستان، وإنه أمر بدعم القاعدة الروسية في طاجكستان. ولا يخشى الروس أن يتدخل الطالبانيون في الجمهوريات الإسلامية الموالية لموسكو، وإنما يخشون لجوء المتذمرين في الجمهوريات إلى بلاد «طالبان». وهم مثل الغربيين يخشون أن يعود «الإرهاب» للتمركز في بلاد الأفغان، رغم معرفتهم بشدة عداء «طالبان» لـ«داعش»!

ما التأثيرات الاستراتيجية الحقيقية على الولايات المتحدة؟

توماس فريدمان في «نيويورك تايمز» يستظهر صوابية قرار الانسحاب، وأنه بغض النظر عن خيبات تنظيم الانسحاب، لماذا يكون على الولايات المتحدة الإصرار على استمرار الاحتلال ما دام هناك تسليم منذ أكثر من عشرة أعوام بأن الحرب خاسرة تماماً. وهو يرى أنه لن تكون هناك تأثيرات استراتيجية سلبية، وأن هذه البلاد المليئة بالمشكلات ستظل شديدة الإقلاق للجيران، كما كان عليه الأمر طوال التاريخ الحديث. لقد كان ضرورياً ضرب «القاعدة» في أفغانستان، لأنها هاجمت من هناك الولايات المتحدة عام 2001، أما اليوم فلم يعد لذلك داعٍ، وربما كان على الجيش الأميركي وحلفائه الانسحاب من هناك عام 2010 عندما انسحبوا من العراق!

أما المفكر المشهور فرنسيس فوكوياما فيكتب عن «نهايات الهيمنة الأميركية» بسبب تعدد الأقطاب، وهو أمرٌ ما عاد إنكاره ممكناً. وهذا لا يزعجه بقدر ما يزعجه «الاستقطاب الداخلي» بالولايات المتحدة، بحيث ما عاد الإجماع على أي أمرٍ مهما صَغُر ممكناً. فالجمهوريون والديمقراطيون كانوا متفقين على ضرورة الانسحاب من أفغانستان، لكنهم يتشاجرون الآن كأنما كانت وجهات النظر متعارضة، وهي لم تكن كذلك. الخلاف جارٍ على أشده في كل شيء وحول كل شيء، وما عادت المؤسسات تعمل كما يجب حتى في صغائر الأمور مثل الضرائب ومثل «كورونا» وحتى الانتخابات الرئاسية تعرضت خلالها الديمقراطية لانتكاسة كبيرة بالهجوم على الكونغرس، وهي أزمة ما عرفت الولايات المتحدة مثيلاً لها إلا في الحرب الأهلية. الحرب الفيتنامية غيّرت الولايات المتحدة من الداخل، أما حرب أفغانستان فلا أثر لها لهذه الناحية، لأن الجدل الدائر بالداخل حولها هو نتيجة للانقسام والاستقطاب وليس سبباً له! إن هذا الاستقطاب الداخلي هو الذي يمكن أن يزيد من تداعي الهيمنة الأميركية، وتداعي هيبة الولايات المتحدة في العالم القريب منها والمخاصم لها. فهل إذا احتلت روسيا أوكرانيا مَثَلاً يستطيع أي رئيس أميركي وسط ظروف الانقسام الداخلي أن يتخذ قراراً بالحرب ولو بالواسطة؟!

يحسب فوكوياما أن أهم ما فقدته الولايات المتحدة (ومعها الغرب الأوروبي) هو القوة الأخلاقية أو التفوق الأخلاقي. وهي الاعتبارات القيمية والديمقراطية والإنسانية التي لا تكفي لإحقاقها قوة الجيوش أو حتى الاقتصاد أو ما قيل ويقال عن نمط الحياة الأميركي والأوروبي.

إن هذا الحزن العميق أو الكآبة المتعددة المصادر وبمناسبة الانسحاب من أفغانستان وليس بسببه، لا تُخفي خيبة عميقة من هذا «الإسلام» الذي يحتارون جميعاً في طرائق التعامُل معه أو مع معتنقيه. هناك ما يقارب ثلث الشعب الأفغاني (عدده نحو أربعين مليوناً) يريد الهجرة الآن إلى أي مكان. وهؤلاء الهاربون أو مريدو الهرب هم جميعاً مسلمون مثل «طالبان»، لكنهم يخشون «طالبان» خشية شديدة لتجاربهم السابقة معهم في سنوات الحكم والحرب، ولأنهم لا يشاركونها قيم العيش الإنساني والتوقعات.

نعم، لا يريد أكثرنا إخافة العالم ولا الخوف منه، لكنّ هذين الأمرين يحدثان على الدوام. ولا حول ولا قوة إلا بالله.