لا يمكن التعاطي مع مسألة الانسحاب العسكري الاميركي من أفغانستان وعودة حركة «طالبان» الى السلطة، على أساس أنها محطة سياسية عابرة ومحصورة ضمن الجغرافيا الأفغانية فقط.
في الواقع إنها بداية مرحلة ستطول بعض الشيء، وستؤثر بنتائجها في كامل رقعة المنطقة. لأجل ذلك، سيأخذ ملف افغانستان حيّزاً لا بأس به من الاجتماع الاول ما بين الرئيس الاميركي جو بايدن ورئيس الحكومة الاسرائيلية نفتالي بينيت. في السابق، كان الملف الايراني ومتفرعاته هو الذي يُهيمِن لوحده على الاجتماعات الاميركية ـ الاسرائيلية، امّا اليوم فثمة مُستجد كبير سيلفَح وجه المنطقة «بنكهة» جديدة.
حتى لبنان سيتأثر بالمُستجدّ الافغاني، ولو بطريقة غير مباشرة ومحدودة. وقد يكون مستشار الامن القومي الاميركي السابق زبيغنيو بريجنسكي أحد الاوائل الذي اكتشف اهمية افغانستان على مستوى المنطقة، هو الذي شَغل منصبه في ظل ولاية جيمي كارتر ما بين 1977 و1981، والذي كان يردد أنه اذا أردتَ إشغال المنطقة فعليك ان تتطلع الى افغانستان بسبب تعقيداتها وتداخلها مع الدول المجاورة.
فأفغانستان يبلغ تعداد مواطنيها نحو 40 مليون نسمة ويتوزعون بين البشتون 40 % والطاجيك 25 %، والهزارة نحو 10 % وهم من الشيعة، والاوزبيك نحو 10 % أيضاً وهم يتحدثون اللغة التركية.
هذا الخليط المتناقض إتنياً ودينياً جعلَ أبوابه مفتوحة امام التداخلات مع القوى الاقليمية. فعلى سبيل المثال، فتحت «طالبان» في تسعينات القرن الماضي سفارة لها في الشيشان عند الحصار الديبلوماسي المفروض عليها، وكانت هنالك سفارة شيشانية في كابول.
وأرسلت «طالبان» مجموعات للقتال الى جانب الشيشان ضد الاتحاد السوفياتي، وشاركت ايضاً في القتال مع زعيم أوزبكي إنفصالي.
وفي افغانستان مجموعات قتالية عدة من الايغور الصينيين، وهي شكّلت احدى أهم المجموعات الحليفة لـ»طالبان»، والتي قاتلت معها بشراسة في اطار المجموعات الاجنبية التي تقاتل «الاعداء الداخليين».
في الواقع، هنالك من يعتقد انّ واشنطن رَمت بقنبلة في المنطقة بعد انسحابها من افغانستان وتسَلّم «طالبان» السلطة، إثر مفاوضات بدأت قبل عامين بين الطرفين في قطر.
فخلافاً للوعود والتصريحات المختلفة والمطمئنة لزعماء «طالبان»، إلا أنه من الواضح انّ مجموعات الايغور، المشهود لهم بشراستهم القتالية، سيركزون نشاطهم على الداخل الصيني حيث الاقلية الاسلامية. هو تصور دامٍ من المفترض ان يفتح جرحاً للصين، ويشغلها بمقدار كبير.
وفيما تتطلّع مجموعات الطاجيك والاوزبيك الى ساحات آسيا الوسطى حيث النفوذ الروسي، والذي فرض سابقاً غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان، تتطلّع واشنطن الى نشر قوات اميركية في هذه المنطقة بذريعة حمايتها من مخاطر حركة «طالبان»، من خلال توجيه ضربات الى داخل افغانستان عندما تستدعي الحاجة مستقبلاً. لكنّ روسيا، التي تدرك أنها ستصبح امام خطر «طالبان» من جهة وامام خطر أكبرـ وهو القوات الاميركية ـ بَدت منزعجة وأبدَت رفضها أيّ حركة من هذا النوع. وبالتالي، فإن الخطر الثاني لـ»طالبان» بعد الصين هو في اتجاه روسيا من خلال دول آسيا الوسطى.
تبقى العلاقة بين «طالبان» التي تقوم على أصولية متشددة سنية وايران الدولة الدينية الشيعية.
في العام 1998استهدفت «طالبان» القنصلية الايرانية في مزار شريف وقتلت 9 ديبلوماسيين، ولاحقت واضطهدت الهزارة او شيعة افغانستان. لكنّ الايرانيين بَدوا اكثر حكمة ودهاء في التعاطي مع «طالبان» لاحقاً، فمنذ عام 2015 توقف مرشد الثورة السيد علي خامنئي عن انتقاد حركة «طالبان»، مُركّزاً على مقاومة «الشَر الأميركي». وأجرى مراراً مقارنات حول وجوه الشبه بين المقاومة الافغانية والسورية والعراقية واليمنية. وتَردّدَ انّ ايران كانت تعمل على تزويد «طالبان» بالاسلحة الخفيفة طوال مرحلة النزاع الدائر. وعلى خط موازٍ، عملت على تنظيم وضع الهزارة وأنشأت لواء «فاطميون» او ما يُعرف بـ»حزب الله» افغانستان، وقيل ايضاً انّ طهران نجحت خلال المرحلة الماضية، وتحديداً خلال المفاوضات التي دارت بين واشنطن وحركة «طالبان» لتأمين الانسحاب الاميركي، في إنجاز اتفاق غير مُعلن مع «طالبان» تعهّدت خلاله قيادة «طالبان» بعدم التدخل في المناطق التي تعيش فيها الغالبية الشيعية في مقابل عدم قيام الهزارة بأيّ أنشطة دينية تبشيرية. وفي المقابل، سيشارك الهزارة في القتال داخل صفوف «طالبان» مع وعد بمَنحهم تمثيلاً في الحكومة.
هي صفقة ملائمة جداً لإيران، وتسمح بفتح باب النزاعات على الاقل في المرحلة القريبة المقبلة، خصوصاً انّ طهران تنتظر طلباً من «طالبان» بالمساعدة على صيانة الاسلحة الضخمة والثقيلة التي تركها الجيش الاميركي عَمداً عند انسحابه، واستولَت عليها «طالبان» من المخازن الاميركية.
لكنّ مرحلة التعاون قد لا تطول، ففي نهاية الامر إنّ «طالبان» ليست حليفاً طبيعياً للثورة الاسلامية الشيعية في ايران، لا بل هي خصم عقائدي وايديولوجي لديه تاريخ حافل وغني بالنزاعات والمواجهات الدموية.
والأهم من ذلك الشحن المعنوي الهائل الذي اكتسبته مختلف التنظيمات المتطرفة في الشرق الاوسط والعالم. وهو ما عبّر عنه ايضاً السفير الاميركي السابق في افغانستان ريان كروكر، عندما قال انّ انسحاب الجيش الاميركي شجّع المتطرفين الاسلاميين العنفيين على استعادة نشاطهم. لكنّ كثيراً من هذه المجموعات المتطرفة في الشرق الاوسط تقف على تماس مع المجموعات الشيعية الموالية لإيران، مثل «داعش» و»القاعدة» وايضاً «الاخوان المسلمين». وهو ما يعني انّ الوقت قد لا يطول قبل استعادة مَسار العمليات الارهابية، والتي ترتكز على واقع الاختلاف الديني، والتي ازدهرت خصوصاً بعد انطلاق ما اصطُلِح على تسميته «الربيع العربي». وللمفارقة، إنّ مرحلة الربيع العربي بدأت خلال ولاية الرئيس السابق باراك أوباما، والذي كان يشغل موقع نائبه الرئيس الحالي جو بايدن. لذلك، كان لا بدّ لرئيس الوزراء الاسرائيلي إعطاء مساحة خلال لقائه الرئيس الاميركي للحديث عن مرحلة ما بعد عودة «طالبان» الى السلطة في افغانستان، ذلك أنّ للمسألة ارتدادات ستصيب الشرق الاوسط بكامله ما قد يفرض مَحاور جديدة وخريطة تحالفات مختلفة. وعلى رغم ذلك، فإنّ أطراف الطبقة السياسية في لبنان في عالم آخر، عالم ترتيب مصالحهم وحسابات المستقبل، فوق مآسي البلد والانهيارات التي ضربت كل القطاعات وعَمّمت الفوضى ومعها دماء الضحايا وتَدافُع المواطنين الى الهجرة وترك البلد، الى درجة انّ احد المسؤولين الفرنسيين الكبار من الذين يتعاطون في الملف اللبناني، قال أمام احد زوّاره نهاية الاسبوع الماضي: «انّ الطبقة السياسية في لبنان لا يوجد مثيل لأنانيتها على مدار التاريخ، فهي تدفع بمواطنيها دفعاً الى أتون النار والاهوال والمخاطر، وهي تستعد لاستثمارها في اطار سعيها لحماية نفوذها داخل السلطة».
ولم يستبعد هذا المسؤول تحركاً أوروبياً، وربما اميركياً، أكثر حزماً بدءاً من الاسابيع المقبلة عنوانه العقوبات، والتي يعتقد انه حان وقتها، خصوصاً أنّ هنالك مَن يراهن على الفوضى لتطيير الاستحقاقات، بدءاً من الانتخابيات النيابية.