لم يفز أي مسلسل تلفزيوني بمتابعة توازي التي يفوز بها حالياً مسلسل مطار كابل. كان من الصعب على أي مخرج بارع الذهاب بعيداً في الخيال إلى هذا الحد. لا يمكن تصورُ خاتمةٍ بهذه القسوة لقصة من هذا النوع بدأت بهجمات 11 سبتمبر (أيلول) وعلى أيدي ضيوف رفضت حركة «طالبان» يومها تسليمهم للعدالة.
منذ أيام وأنظار العالم مسمَّرة على الشاشات المسمرة على ما يجري في مطار كابل ومحيطه. كأنَّ الإمبراطورية الأقوى في العالم وقعت فجأة في فخ المطار. لم تعد لها أي طموحات أو مطالب. لم تعد تفكر بما أنفقته هناك من خسائر بشرية ومالية. تفكر فقط في المغادرة والابتعاد. في الاستقالة من مهمة طويلة بدأت دفاعاً عن النفس وها هي تنتهي بفضيحة. ليس بسيطاً أن يصبحَ مصير الرحلة الأفغانية الصاخبة للولايات المتحدة معلقاً على مشاهد المطار. نقول مصير أميركا ونعني تحديداً هيبتها. والإمبراطوريات هي هيبتها قبل أي شيء آخر.
وليس ثمة شك أنَّ صورة أميركا أُصيبت بأضرار سريعة وعميقة منذ اللحظة التي اختار فيها الرئيس أشرف غني الفرار من البلاد بذريعة حقن الدماء. انهارت فجأة المؤسسات التي كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة تباهي ببنائها وبما أنفقته عليها موحية بأنَّ عهد «طالبان» صار مجرد مرحلة شائكة من تاريخ غير قابل للتكرار. ترسانة أميركية كاملة وقعت في أيدي مقاتلي «طالبان». وجد العالم صعوبة في التصديق. هل بقي الأميركيون غرباء عن الحقائق الأفغانية بعد عقدين من الإقامة في تلك البلاد الصعبة؟ وهل يمكن الوثوق بعد اليوم بتقديرات أجهزة الاستخبارات الأميركية بعدما تسببت توقعاتها الهوائية في إيقاع البلاد والإدارة الحالية في مأزق اسمه مشاهد المطار؟
ومسلسل المطار غريب وموجع. غادر «الجيش الأحمر» السوفياتي أفغانستان مثخناً لكنه لم يغادر في ظل مثل هذه الشروط. ولم تسبق مغادرته انهيارات المؤسسات الأفغانية التي دعمها. غريب أيضاً لأن الإمبراطورية تُمضي أياماً قلقة مفتوحة على كل أنواع المفاجآت. ماذا يمكن أن يحدث لو قررت مجموعة من «طالبان» اختطاف حفنة أميركيين وأخذهم إلى مخابئ بعيدة في هذه البلاد الوعرة؟ ماذا يفعل الجيش الأميركي؟ وأي قرارات يمكن أن يتخذ بايدن؟ وماذا عن القوات الحليفة أيضاً؟ وماذا لو استهدف «داعش» موكباً أميركياً في طريقه إلى المطار؟ وماذا لو قررت إيران تحريك أذرعها الغامضة لتوجيه ضربة وداعية للقوات الأميركية وبغرض تشجيعها على تسريع مغادرتها الخريطتين العراقية والسورية؟ هل يحق للجنرالات وضع جنودهم ومواطنيهم تحت رحمة الخيارات الصعبة أو المذلة؟ وهل يحق لسيد البيت الأبيض وضع الجنرالات وجنودهم في مثل هذا المأزق حيث تبدو الضمانة مقدار التزام «طالبان» بما وعدت به؟
مشاهد مسلسل مطار كابل عجيبة وغريبة ومؤثرة. لا تقتصر على العسكريين الذين يستعجلون الرحيل. هناك مشاهد الأفغان والخوف المطل من عيونهم. خوف من تعاونوا مع الزمن الأميركي لاعتقادهم أن المؤسسات التي أقامها ستدوم وتحميهم. وخوف آخرين يريدون أفقاً للتنفس ونافذة لأولادهم وعمراً غير الذي يمكن أن يتبدد في ظل التشدد والزي الموحد. صور أمهات يحاولن الإلقاء بأطفالهن بين أحضان القافلة المغادرة ستبقى ماثلة في الأذهان. لا شيء يوازي الخيبة من أميركا وقراراتها غير الرهان على رحابة صدرها حيال تعدد الألوان وفرص النجاح التي تتيحها للوافدين والجامعات اللامعة التي تتولى صقل قدرات الواعدين.
يمكن التشاطر على الانطباع الذي ترسخه المشاهد. يمكن الحديث مثلاً عن أكبر وأسرع جسر جوي بعيد في التاريخ لا يمكن أن ينفذه إلا الجيش الأميركي وحده. هذا صحيح لكنه جسر مغادرة لبلاد عادت إلى حيث كانت قبل عقدين. هناك شيء اسمه الهيبة. الأفضل أن تكون قوية إلى درجة لا يجرؤ أحد على اختبارها. وعنيفة إلى درجة تمنع المتحرش من تكرار مغامرته.
مسلسل مطار كابل يفتح امتحان الهيبة على مصراعيه. ماذا يستنتج فلاديمير بوتين حين يتابع مسلسل مطار كابل؟ هل يمكن أن يدافع عن أوكرانيا الجيش الذي ينسحب من أفغانستان بهذه الطريقة؟ يتمشى في مكتبه الواسع. الحذر أكبر الجنرالات وأبرعهم. التوقيت الملائم نصف المعركة. لم يتدخل عسكرياً في سوريا إلا بعدما استنتج بشار الأسد وقاسم سليماني أنه لم يعد أمامهما إلا الدواء الروسي لوقف «الهجمة الكونية». بهجة بوتين بمشاهد مطار كابل لا تخفي شعوره أن أميركا المغادرة ألقت بالقنبلة الأفغانية بين أيدي جيران «المفاعل الأفغاني». وهو يعرف أن روسيا معنية بانبعاثات هذا المفاعل سواء ما يتعلق بأمنها أو أمن حلفائها المقيمين على شفير أفغانستان.
ولا غرابة أن يتابع شي جينبينغ مشاهد مسلسل مطار كابل. مغادرة الأميركيين خبر جيد. والمعادن الأفغانية تستحق دفع «الحزام والطريق» إلى التوغل في بلاد «طالبان» بعد باكستان. يشعر «الرفيق» الجالس على عرش ماو أن أميركا المغادرة لن تعود للدفاع عن أسلوب الحياة في هونغ كونغ أو حتى عن سيادة تايوان. يبتسم. صار من الصعب على دول العالم الرهان على وسادة أميركية مضمونة. وسيدفع بايدن ثمن هبوط أسهم هذه الوسادة.
لم يعد الغرب قادراً على كسب الحروب في مناطق لا تشبهه. حسم الحروب يحتاج إلى بطش لم يعد الغرب قادراً على ممارسته. رقابة وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والمجتمع المدني تكبل أيدي الجنرالات. لا يعاني الجيشان الروسي والصيني من وطأة هؤلاء الرقباء. ثم إن الحكومات الغربية لا تستطيع الاستقالة من مصير مواطن واحد من مواطنيها. أزمة الرهائن الغربيين في لبنان في العقود الماضية خير دليل. إيران الخميني التي احتجزت الأميركيين رهائن في سفارة بلادهم في طهران لاستنزاف هيبة «الشيطان الأكبر» طورت لاحقاً أساليبها. باحتجاز حفنة مواطنين غربيين نجحت وعبر عناوين مضللة في استدراج الدول الكبرى إلى «أقفاص صغيرة». رحلات ووساطات وأثمان وتنازلات من أجل الإفراج عن أميركي اختطفته «منظمة مجهولة» من شوارع بيروت.
هل تغري مشاهد مطار كابل بعض الدول أو الجهات بالعودة إلى التحرش بأميركا؟ هل ستشجع إيران على تصعيد هجومها لطرد أميركا من العراق وسوريا؟ هل ستشجع «القاعدة» و«داعش» على العودة إلى محاولات اقتياد دول كبيرة إلى أقفاص صغيرة؟