تكتسب الإجراءات الدستورية التي أقدم على تطبيقها الرئيس التونسي قيس سعيّد أهمية بالغة على المستوى الداخلي وعلى المستوى الخارجي، كونها تنهي مرحلة سياسية وتؤسس لمرحلة جديدة، وهي تُعيد رسم الخارطة الجيوسياسية للمنطقة المحيطة، وتُعيد تصحيح المقاربات الخاطئة التي تمَّ إعتمادها منذ ما يقارب العشر سنوات، أو منذ إنطلاقة ما أطلق عليه الربيع العربي الذي بدأ من تونس بالذات واستغلته قوىً لم تكُن في يومٍ من الأيام محط ثقة عند العامة من شعوب الدول العربية.
من الواضح حتى الآن أن التجاوب الشعبي مع خطوات الرئيس سعيّد التي إتخذها بموجب المادة 80 من الدستور؛ كبيرٌ جداً، وقيل أنه وصل الى حد حصد تأييد 90 بالمئة من الذين تمَّ إستطلاعهم في مختلف المناطق التونسية، وفي هذا الأمر دلالة واضحة إلا أن الممارسات التي قامت بها حركة النهضة الأخوانية ومَن يدور في فلكها؛ كانت محل إمتعاض شعبي، وهي السبب في إجهاض اهداف الثورة التونسية، والشعارات التي استخدمتها الحركة لحشد تعاطف الناخبين قبل إنتخابات 2019 كانت خاوية، وأهدافها لا تتجاوز تحقيق مصالح شخصية وفئوية، وكانت سبباً رئيسياً لحالة الفساد التي استشرت في البلاد، وأدت الى إختناق إقتصادي وإداري وصحي غير مسبوق.
الرئيس سعيّد وقبل أن يجمد عمل البرلمان لمدة 30 يوم ويُقيل رئيس الحكومة المقرَّب من الأخوان؛ إعتبر أن البلاد في حالة خطر داهم، والدولة مُهددة بالزوال، والفوضى تُطرق الأبواب، والناس تئنُّ تحت وطأة الفقر والمرض من دون أن تتخذ الحكومة إجراءات لوقف الإنهيار. ورئيس البرلمان راشد الغنوشي تحصَّن خلف المؤسسة التشريعية لتحقيق مآرب شخصية وفئوية، وشجَّع المُنحرفين على الإرتكابات الفاسدة، والوضع الأمني وصل حدود الإنفلات بعد أن قام مؤيدوا الغنوشي بخطوات تمردية تُنذرُ بتهديد الإستقرار الأمني.
منذ إنتخابه في 13 اكتوبر/تشرين الأول 2019 كان الرئيس قيس سعيّد هدفاً للجماعات الأخوانية المُتطرفة، وهذه الجماعات التي تتزعمها حركة النهضة رأت في سعيّد حاجزاً أمام تحقيق طموحاتها بالسيطرة على البلاد، والترويج إنطلاقاً منها للأفكار السياسية التي تعتمدها في الخارج، وهذه الأفكار تتركَّز على تشويه الفكرة العربية، وإعتماد مقاربات اسلامية خاصة لا تمتها صلة بجوهر الإسلام الحنيف، لاسيما لناحية تشريع العنف والإغتيال في سبيل تنفيذ المآرب، وهو ما مارسته الحركة في أكثر من مكان، لا سيما في مصر والسودان وسوريا والجزائر. بينما رؤية الرئيس سعيّد تستند الى تطلعات مدنية تعتمد على القانون وتحترم حقوق الإنسان، وتُنشد التطور في المجالات الإقتصادية والعلمية.
نتائج ما يحصل في تونس ستكون في غاية الأهمية على المستوى الداخلي وعلى المستوى الخارجي، وإذا ما تمكن الرئيس من فرض إنتخابات تشريعية مبكرة؛ ستتبيَّن الفروقات في مستويات التمثيل بشكل واضح، لأن الدعاية التي إعتمدتها حركة الأخوان أُجهضت بالممارسة، ولن يكون لهؤلاء أي أغلبية في البرلمان. وقد برز بوضوح عدم قدرة مناصري الغنوشي على حماية مقراتهم التي هاجمتها الجماهير المؤيدة لحراك الرئيس سعيّد، ولولا حماية الجيش وقوات الأمن للناشطين في الحركة ولمقراتها؛ لكانت الأمور تطورت الى مآلاةٍ عنفية واسعة ضدهم. وسعيّد يرفض الجنوح نحو العنف ويتمسَّك بالقانون، ولن يكون ديكتاتوراً آخر وهو في هذا السن ( وفقاً لما أعلن شخصياً في خطابه الى الأمة).
التأثيرات الخارجية للإنتفاضة الدستورية التونسية ستكون كبيرةٌ ايضاً، على إعتبار أنها تنهي ما تبقى من آثار لحقبة ماضية حاول فيها الأخوان استغلال " الربيع العربي " لمصلحتهم، وقد هزموا في مصر وفي السودان وفي الجزائر وفي ليبيا، وتراجعهم في العديد من المناطق واضح للعيان بسبب فشل تجربتهم في الحكم، ولأن ممارساتهم ساهمت في زيادة حالات الفقر وتقييد الحريات، وهي العناوين التي إنطلقت الإنتفاضات العربية من أجل التخلُّص منها.
حظيت الحركة الأخوانية على مدى السنوات الماضي – لا سيما في تونس – برعاية خارجية واضحة، ولعلَّ ما صدر من تسريبات عن التفاهمات التي وضَّبتها وزيرة خارجية الولايات المتحدة في عهد الرئيس باراك اوباما هيلاري كلينتون خير دليل على المساعدة التي تلقتها حركة الأخوان، وموقف وزير الخارجية الحالي انطوني بلينكن من الإجراءات التي اتخذها سعيّد، تؤكد أن غشاءً ما يخفي قطبة تظليلية في الموقف الأميركي، ودعوة بلينكن للرئيس سعيّد لإحترام الديمقراطية؛ فيها شيء من الإلتباس، وتوحي كأن سعيّد لا يحترم هذه المعايير، بينما أخصامه - ومنهم رئيس الحكومة المقال هشام مشيشي - اعترفوا بدستورية الإجراءات، وانصاعوا لها، والقوى التركية التي كانت تؤيد حكم الأخوان لم تعثر على شوائب يمكن الولوج منها لمهاجمة الإجراءات.
سيكون لما يجري في تونس إنعكاسات على المنطقة العربية برمتها، وتحميل مصر ودول عربية أخرى مسؤولية عما يجري يزيد من أهمية الإنتفاضة التونسية ولا يقوضها.