تلٌ صغيرٌ يترامى محببٌ فوق سهل عكار، يسلك منه الناس إلى منطقة الدريب، هي بلدة التليل.
في الطريق إليها من حلبا، فبلدة الكويخات، ثم بلدة الحوشب، تعبر بلدة الغزيلة، ثم تجتاز إلى التليل. فإذا أنتَ بعدها في بلدة الكواشرة، وعمار البيكات، والبيرة، والسنديانة، والقبيات، مطلاً على بلدة منجز والأوتوستراد المحاذي للنهر الكبير الجنوبي، الذي شُقّ بتوجيهٍ من الزعيم وليد جنبلاط، صعوداً إلى بلدة "نورا"، المشرفة على الحدود بين لبنان وسوريا.
والتليل تصغير تل. كما الدريب، تصغير درب.
تلٌ صغير إذن فوق السهل، على كتف النهر الفاصل بين لبنان وسوريا. تلٌ بعيدٌ نسبياً عن برج المراقبة الذي اتّخذه الجيش اللبناني لمراقبة التهريب عبر الحدود، على طريق إكس دينار، عند الطرف الجنوبي لبلدة منجز.
والتليل هو حتماً الدرب إلى منطقة "الدريب"، تمر بالبيرة والقبيات، وعندقت، وشدرا، ومشتى حسن، ومشتى حمود والبقيعة، وجسر قمار، آخر نقطة لبنانية للعبور إلى وادي خالد، والعبور إلى سوريا وحمص.
تمتد أراضي بلدة التليل إلى ضفة النهر الكبير. حيث هناك التواصل شبه عادي مع الضفة الأخرى، ومع الأهالي في الضفة الأخرى. وهذا ما يسهّل التبادل بين الضفتين، اللبنانية والسورية. وحيث انتعشت المنطقة بعد شق الأوتوستراد بمحاذاة الأراضي السورية، من بلدة العبودية في سهل عكار، حتى جسر قمار، إلى سوريا.
"ثقب التليل" إلى سوريا كثير الأهمية، لأنّه أول تلٍ صغيرٍ يشرف على الحدود السورية. وهو يمتاز بسعته وانتشاره، وحسن جواره، وتناسب وتصاهر أهاليه. إذ ترتبط بلدة التليل بحسن جوار مع المنطقة كلها على طول الحدود.
بلدة التليل، الثقب إلى جنة السهل والنهر. تربض في أعلى الدرب الواصل إلى منطقة الدريب فحمص، وإلى منطقة جبل أكروم، وبيت جعفر، والهرمل، ووادي خالد. إنّها ثقب العبور إلى دنيا الدريب البعيدة. تآخت منذ قديم الزمان مع بلدات القبيّات، وعندقت، ومنجز، فنشأت بينها وبينهم روابط عائلية، بحكم الصلات الدينية والعائلية والاجتماعية الحميدة.
كنتُ في صغري، وأنا أغزّ إلى طرابلس، أتلهّف حين وصولي إلى بلدة التليل، كأنني أطل من ثقب "صندوق الفرجة" على الدنيا كلها، من سهلٍ ونهرٍ وجبلٍ، وقرى قريبة وبعيدة.
وكلما كنتُ أنحدر منها، كلما كانت تطل عليَّ من بعيد بلدة حلبا، وتتفتح لأنظاري عاصمة السهل بعد أن أجتاز نهر أسطوان الجميل الذي يشقّ السهل، ويصبّ في البحر. وهو أول نهر في الشمال، ينبع في لبنان، ويصب على الشاطئ اللبناني.
كانت قرى الدريب لا ترى ما بعد التليل، إلّا إذا وصل أهلها واعتلوا تلّها الصغير، فصاروا ينظرون إلى الدنيا الجميلة بعدها، كما ينظر الصغير من "ثقب الصندوق".
تلالٌ من الأقحوان، ومن شقائق النعمان، تربو على أكتاف بلدة التليل. نصعد إليها، ثم نتزحلق عنها، باتّجاه بلدة حلبا، وعرقة ونهر عرقة. نشقّ الطريق إلى بلدة العبدة، أول البحر، لجميع قرى الدريب.
كانت بلدة التليل، ثقب الجنة الذي ننظر منه إلى الجنّات حولنا. كروم الزيتون والعنب والتين، وحقول القمح، والكرسنة، والشعير. وبيادر الصيف التي تتلألأ ليلاً بالعرازيل.
كانت مؤاخاتهم لأهل السهل في عكار، تجعلهم يستضيفون بكوات السهل في بيوتهم. فإذا ما اشتدّ الحر، انتقلوا إلى القبيّات، والبساتين، والجرود، وجبل المورغان، وكرم شباط، وبيت جعفر، فالقموعة. وكان أهل التليل يجرون خلفهم يودّعونهم، ويعظّمون استضافتهم.
كانت بلدة التليل أول محطة للعابرين على دوابهم. كما كانت مراحاً ومنزولاً لكل مسافر على دابة، قبل وصول السيارات إلى البلدات.
كانت الرحابة، والطيبة، وسعة الصدر، وحسن الجوار، لممّا يوطّد العلاقات مع جميع المكوّنات المجاورة في لبنان وسوريا.
أمس، فجر يوم 15/8/2021، في بلدة التليل، انفجر "ثقب النار" بأهله. فقرٌ، وإهمالٌ، وسوء إدارةٍ وتدبير. اجتمع ذلك كلّه على أهل التليل، وأشعل فيهم فتيل تخزين وتهريب البنزين. فكانت تلك المجزرة المروعة التي أودت بحياة العشرات من العائلات.
شبابٌ وشيوخٌ وأطفال، كانوا عرضة لثقب التليل، الذي اشتعل بالنار فاصلاً بين القديم والجديد.
قديم التليل، الذي كان يملأ نفوس الأهالي في البلدة والجوار بحسن المعاملة، وبحسن العشرة. وبحسنِ الضيافة، فوق بساطٍ من جمال الطبيعة وسكونها ورحابتها، وترحيبها بالناس.
وجديد التليل، الذي أضرمت النار به، في الثقب نفسه، وحضرت الناس للتمزّق، وللكراهية، وللاشتعال.
فهل تكون التليل بوابة العبور إلى سوق جهنّم، فتستحضر العصابات، وتستحضر العمالات، ويستحضر الارتهان. ويتمّ استحضار الشر، من باب التليل، بوابة الدريب. مِن بوابة السهل، ومن بوابة الجرد. ومِن بوابة الشفت، من بوابة القيطع، إلى كل عكار!
*أستاذ في الجامعة اللبنانية