Advertise here

عن بيروت العروس الحزينة

11 آب 2021 08:16:14 - آخر تحديث: 11 آب 2021 08:17:02

لؤلؤة الشرق، وست الدنيا، وقلادة العرب، والجنَّة والنجمة؛ جريحة بائسة، مكسورة الخاطر، ترتشفُ العلقم على ضوء القناديل الذابلة في صيف حار. بخل عليها العريس والأشابين والمعازيم، وتركوها ممزّقة القلب تبحث عن البريق والصدى لتقدم لهم حلاوة المفاتن وروائع هزات الخصر الساحرة؛ فالبريق نام باكراً مع الدغوش، والصدى بُحَّ صوته وتحوَّل الى أنين يبحث عن دواء، حتى أن البحر الذي منحته بيروت الرونق والحياة عبر عقود؛ حبس عنها أنفاس الهواء العليل الذي اعتاد أن يتبختر بين حاراتها الجميلة، يعطيها نشوة البرودة، ويأخذ من جمعات أهلها الحلوة بلسم الرُقيِّ والهناء لينثره فوق صحاري الشرق وروابيه.
 
بيروت جريحة تلفها المعاصي، ويحاصرها الشتّامون، ويديرها الفاشلون، وحاميها يغضُّ الطرف عن الموبقات، أو أنه حارسٌ للمرتكبين، وهي تستذكر قول الإمام علي بن أبي طالب، "إن خسارة ألف من عليَّة القوم أخف وطأة على الأُمة من وصول تافهٍ واحد الى سدَّة الحكم". وبيروت ابتُليت بالاثنين معاً، فخسرت الآلاف من خيرة أبنائها بالاغتيال أو بتفجير مرفئها أو بالهجرة، ووصل الى كرسي الحكم فيها التافهون بشهادة العالم أجمع.
 
يكفي أن تجول في شوارعها الرئيسية لترى المآسي والسواد، وتتنشَّق رائحة عوادم أكثر من ثمانية آلاف من المولدات الكهربائية المنتشرة على المداخل والسطوح وفي الزوايا الخضراء المتبقية من حدائقها الساحرة ... حتى أن هذه المولدات التي نضُبت خزاناتها من المازوت، أصبحت تصيحُ ألماً خوفاً على أصحابها والسكان الذين سيفقدون مع توقفها النافذة الأخيرة التي يشاهدون منها النور، ولو كانت هي ذاتها تُدخل لهم التلوُّث والغبار.
 
أما إذا دخلت الى أحيائها السكنية الداخلية التي كان يحلم بأن يقطن فيها رواد الفكر والثقافة والمستشرقين والصناعيين والتجار والحرفيين والصحافيين والسائحين الباحثين عن الاستقرار والهدوء والمباهج، فترى في تلك الأحياء ما يُشبه الموت، بينما ما زالت تتحرَّك في أطراف الجسد بعض الأنامل. ويتجوّل البائسون من الإخوة النازحين بين الأبنية الشاهقة، ربما لأن هذا التجوال هو البديل الوحيد عن الضائع من أوطانهم التي فقدوها على مذبح الجُرمِ واللُّؤم والاستبداد.
 
نجح حكام بيروت ومَن وراءهم، وبعض مَن أمامهم في تدمير هياكل الوطن بفترة قياسية، وتفتحت زهور الأنانية والنرجسية الصَلفة مكان براعم البنفسج الأخاذ، وبدا حقل القمح على جوانب الإهراءات المدمرة في المرفأ ... صورة طبق الأصل عن البساتين المُهجَّنة في محيط تشيرنوبيل، لكن الفرق أن تفجير تشيرنوبيل النووي في 26 نيسان (أبريل) عام 1986 وسط الأمبراطورية السوفياتية شمال أوكرانيا؛ كان بفعل خطأٍ غير مقصود، لكن تفجير بيروت في 4 آب (أغسطس) 2020 كان خطأً مقصوداً وبنيّات جرمية، وربما عن سابق تصوُّر وتصميم، وقد زاد من مفاعيل النكبة اللبنانية، وقضى على مساحات واسعة من سهوب الأمل التي تركتها الجائحة الخبيثة عند اللبنانيين، وساعد حكام بلاد الأرز في التسريع في تنفيذ مهماتهم التدميرية، ومنحهم الوقت والترف ليتلذَّذوا بما يبدو أنهم يستمتعون به من مشاهد الخراب والدمار والموت، وليسجلوا في محافِظ أرشيفهم التاريخي اللعين، أنهم أكثر مَن استقدم الخراب والفقر والدمار الى البلاد في فترة قياسية. وكأنهم يقولون إن العمل السويّ تنساه البشرية، وربما يُنسى صناعهُ، بينما حريق روما وتدمير بغداد وأفعال النازية تدرسها الأجيال، ولا ينساها التاريخ حتى ولو كانت أفعالاً شنيعة. والمأساة الفعلية عندما لا يُدرك الحاكم الفرق بين الشناعة الخاوية والشجاعة التي تحفظ خوابي المواطنين.
 
بيروت الزهرة التي التحفت بسياسة العراء الخانقة، وروت من دمعتها تراب البلاد العطشى، تنتظر الربيع، وستعود زاهية بعد أن تكون الريح قد كسَّرت أغصان الاستبداد والعناد، وعرَّت المتلونين والمكابرين الذين حرقوها ليشعلوا سيجارة، أو ليصنعوا من بقايا حطامها مجداً لذوي الأطماع التوسعية وللحكام التافهين.
 
لو لم تكُن بيروت عريقة وقوية وجبارة وأصيلة؛ لما تحمَّلت كل ما حصل. وظلمةُ أهل البيت عليها كانت أشدّ مرارةً من ظلمةِ الأعداء الذين دنّسوا شوارعها عام 1982 وهربوا خائبين، لكن الدواء والماء والكهرباء حينها كانت تتسلل من بين جنازير دبابات الأعداء الحاقدة على بيوت نجبائها، بينما أهل البيت أو الأولياء والحاكمون اليوم، جعلوا من بيروت أمثولة يذكرها العالم كل يوم، ومشمتاً للحُساد والطامعين.
 
إرادة اللبنانيين التي لم ينل منها الغزاة والمستعمرون والأوصياء عبر التاريخ، لن تنال منها اليوم الأذرع الباهتة، ولا الهياكل البشرية الراكضة خلف المناصب، ولا غلاة الطائفية والتعصّب والموت. وستنفُض عن أكتافها رداء الموبقات الكئيب، وستعود عروسة المتوسط ولو بعد حين. وسينال القتلة والتافهون الذين أذلّوها وجوّعوها جزاءهم مهما طال الزمن.