Advertise here

الإنتقال من "سرطان" الدعم المعروف إلى منصات الإستنسابية المجهولة.. ليس حلاً

11 آب 2021 07:40:20

يفترض المنطق رفع الدعم عن الدواء والمحروقات والطحين، والإنتقال سريعاً إلى البطاقة التمويلية، فتح الإستيراد ومكافحة الإحتكارات. فلعبة "عض الأصابع" التي "تلهو" بها المنظومة مع مصرف لبنان، انتهت إلى "اقتلاع" أرواح المواطنين حرفياً، لا مجازياً، من دون أن يصرخ أحد منهما. عداد الضحايا في المستشفيات وعلى محطات المحروقات يسجل ارتفاعاً يومياً في الأعداد، بظاهرة تستحق رفع دعاوى جزائية بحق المقصّرين من المسؤولين والمحتكرين، ومحاكمتهم، لا تركهم يتسلون بوضع الحلول الترقيعية والخطط "الخنفشارية".

سجل لبنان خلال "فورة" تقطير الدعم على الدواء والمحروقات سقوط أكثر من 13 ضحية. فقضت الطفلتان جوري السيد (10 أشهر) وزهراء طليس (9 سنوات) نتيجة عدم توفر الدواء. وهلك نحو 11 ضحية على محطات المحروقات، من بينهم محمود دلباني، وغيث المصري و5 أفراد من عائلة حويلي، و3 أشخاص في الضنية والبداوي شمال لبنان، وشاب سوري الجنسية في عكار. هذا العدد الهائل من ضحايا فوضى الدعم، وتسجيل الإقتصاد خسائر فادحة نتيجة الإصطفاف لساعات في الطوابير وفقدان المواد الأساسية للاستشفاء والانتاج والنقل والحياة، لم يستأهل من المسؤولين التوقف عن كل المناكفات والصراعات وتقديم المصالح الضيقة على حساب المصلحة العامة، والانتقال فوراً إلى خطط بديلة ومنطقية.

التخبط ببدائل الدعم

منذ نهاية العام 2020 سار رفع الدعم بخطين متوازيين: تمثل الأول بالبطاقة التمويلية والمساعدات الدولية لنحو 700 ألف أسرة بقيمة تتراوح بين 93 و130 دولاراً للأسرة الواحدة. فأقر قرض "شبكة الأمان الاجتماعي" المقدم من البنك الدولي بقيمة 246 مليون دولار لنحو 200 ألف أسرة في 12 آذار الفائت، والبطاقة التمويلية لنحو 500 ألف عائلة، وبقيمة 566 مليون دولار في 30 حزيران. أما الخط الثاني، فكان بانصراف الوزراء إلى وضع الإستثناءات بعد رفع الدعم بخطط هجينة تتطلب "جمهورية أفلاطون الفاضلة" لتطبيقها. فظهرت خطة الدواء في 16 تموز المنصرم، وخُفّض الدعم عن المحروقات إلى 3900 ليرة في نهاية حزيران. و يجري البحث حالياً عن تأمين عدد معين من صفائح البنزين المدعوم على منصة خاصة، واستثناء المستشفيات والأفران، واحتمال المولدات الخاصة، من رفع الدعم عن المازوت.

الخطان المتوازيان لم ولن يلتقيا لمصلحة المواطن والإقتصاد. فلم يُتفق لغاية اليوم على كيفية احتساب سعر صرف قرض البنك الدولي بعدما حدده مصرف لبنان على 6240 ليرة، ولم تلتزم الحكومة المستقيلة بمتطلبات تطبيق الإتفاقية التي طلبها البنك الدولي لجهة الشفافية واحترام المعايير العالمية. مجلس النواب أقر البطاقة التمويلية وترك كيفية توزيع الأعباء وآليات تمويلها وطرق التسديد على عاتق الحكومة التي لم تضع بعد رؤية واضحة لكيفية التمويل. وبخصوص الخطط الهجينة لم تؤدِ خطة وزارة الصحة بتقسيم الدواء إلى 4 فئات وتخفيض الدعم بشكل أولي على الأدوية المنتجة محلياً إلى سعر 4800 ليرة، و12 ألف ليرة لأدوية "OTC" و"acute disease" المستوردة، إلى توفر الدواء في السوق. ففقدت حتى الأدوية المنتجة محلياً مثل "الأسبيكوت" و"البراسيتامول"، وإن وجدت فبأسعار خيالية. وبالنسبة إلى استحداث منصة لتعبئة البنزين بسعر مدعوم، فيجري البحث بتأمين عدد معين من الصفائح، لا يتجاوز الأربعة لكل السيارات المسجلة والمستوفية الشروط القانونية بسعر مدعوم لم يحدد بعد. إلا أنه مع إقفال مراكز المعاينة طيلة الفترة الماضية، وعدم تلبية مراكز تسجيل الآليات "النافعة" المواطنين بسبب الإضرابات ونقص المستلزمات... فان أعداد السيارت المستفيدة ستكون قليلة جداً. خصوصاً تلك العائدة إلى الطبقات الفقيرة وسيارات الأجرة. أمّا بالنسبة إلى تأمين المازوت بسعر مدعوم للمستشفيات والمولدات والأفران فهو بفتح المجال لتهريبه أو حتى بيعه بسعر أعلى.

البطاقة التمويلية ما زالت حلاً

وفي جميع الأحوال فانه طالما بقي الدعم لبعض الفئات أو القطاعات، طالما سيستمر التقنين في فتح الاعتمادات وفقدان السلع المدعومة. خصوصاً في ظل التفاوت الهائل بين السعر المدعوم من جهة وسعر السوق من جهة ثانية. في المقابل فان الإتفاق على ضرورة وحتمية رفع الدعم، يفرض سؤالاً جوهرياً عن مدى صلاحية البدائل المقترحة سابقاً، وقدرتها على توفير الحلول الشافية، بسبب التبدل السريع في الظروف والمعطيات وتعطل آليات المراقبة. ليبقى الجواب بحسب الأمين العام السابق لـ"المجلس الأعلى للخصخصة" وخبير الإستثمار د. زياد حايك، بان "الدعم الموجه هو الحل الوحيد المتوفر حالياً بغض النظر عن صعوبة التحديد بالأرقام والمؤشرات الإقتصادية مدى جدواه، والقدرة على تطبيقه بشكل صحيح وضمان عدم تفلته". حايك الذي يؤكد أن الأجوبة على المشاكل لم تعد إقتصادية إنما سياسية، يرى أن "الدعم المباشر للأفراد والأسر عبر البطاقة التمويلية وغيرها من الطرق يمثل الإستخدام الأمثل في حال توفر مصادر التمويل من المؤسسات الدولية، كقرض الحماية الإجتماعية من البنك الدولي، أو حصول لبنان على حصته من حقوق السحب الخاصة. حتى ولو لم تكن آليات تطبيق الدعم المباشر فعالة أو صحيحة بشكل كامل، تبقى أفضل بما لا يقاس من استمرار الدعم على السلع والمواد.

المشكلة سياسية

على الرغم من أن ما يعيشه لبنان اليوم هو أزمة إقتصادية مصنفة من ضمن أقسى 3 أزمات شهدها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، فان "الحلول لم تعد باعتماد الإجراءات الإقتصادية المرحلية بل بالإتفاق السياسي"، يؤكد ناشر ورئيس تحرير مجلة "ليبانون أوبرتينيوتي" د. رمزي الحافظ، "فالبدع المعتمدة لمواجهة المشاكل تقود في كل مرة إلى فشل أكبر. وهو ما يؤشر إلى أن المشاكل لم تعد تحل بالمفرق بل المطلوب هو حل بـ"الجملة"، لا يتوفر إلا في حال توفر التوافق السياسي". من هنا فان دعم السلع انتهى بالفشل، برأي الحافظ، من دون أن يؤدي الغرض منه، مثلما يحدث في كل زمان ومكان يطبق فيهما الدعم على السلع. وبالتالي فان المطلوب الإنتقال مباشرة إلى دعم المواطنين. أما "الحديث عن ذهاب جزء من البطاقة التمويلية إلى غير مستحقيها، وظهور حرص المسؤولين المفاجئ على تطبيق الخطط بشكل دقيق... هما في الحقيقة حجتان لغياب نيتهم بالتطبيق، أو لعجزهم الفاضح وعدم القدرة على المبادرة والإفتقاد إلى قيادة قادرة وتقاذف المسؤوليات في ما بينهم. فيما لو قصدوا هناك أكثر من طريقة لتطبيق آليات الدعم المباشر بطرق صحيحة. وكل الكلام عن إمكانية التقدم لنيل البطاقة مِمَّن ليس بحاجة ليس دقيقاً. ذلك أن المبلغ المعطى زهيد". وفي المقابل يعتبر الحافظ ان "الدعم المباشر لا يساعد الأسر على تخطي الأزمة فحسب، إنما يخلق سيولة بالعملة الأجنبية ويحد من فقدان السلع الضرورية أو تحولها إلى السوق السوداء بسعر أعلى من قيمتها".

المأزق السياسي والعقد الاقتصادية

يتفق الجميع على أن المأزق أصبح سياسياً وليس إقتصادياً. فـ"طالما نحن نمارس إدارة البلد بنفس الطريقة لا يمكن انتظار نتائج مختلفة"، يقول الحافظ. و"المؤسف أنه كان بالإمكان تفادي كل المشاكل، بدءاً من انهيار سعر الصرف ووصولاً إلى تعمق كل الأزمات الإقتصادية والإجتماعية لو لم يتم إدخال السياسة بكل التفاصيل. لكن مع الأسف لم نتعلم شيئاً. وما يجري اليوم على صعيد تشكيل الحكومة من تغيير للأشخاص والمحافظة على نفس النهج والطريقة يدل على أن شيئاً لن يتغير بظل وجود حكومة أو في عدمها".

رأي يتفق معه زياد حايك، الذي يعتبر ان "لبنان ليس مفلساً وبامكانه التعافي في حال طبق خطة إقتصادية شاملة برعاية صندوق النقد الدولي واستعمال موارده الكثيرة، ومنها الذهب، بطريقة شفافة ومنطقية ومحوكمة. لكن طالما النهج السياسي غير موثوق والجو متشنج والمخاوف متعاظمة فانه يستحيل تطبيق أي فكرة اقتصادية بشكل جدي على أرض الواقع.