قالوا عشية الرابع من آب 2020 أن التحقيق سيعلن خلال خمسة أيام. مضت خمسة أيام، تلتلها خمسة أيام أخرى وأخرى، والتحقيق في انفجار مرفأ بيروت لم يصل إلى أي نتيجة بعد. وها نحن على مشارف الذكرى السنوية الأولى للانفجار، ولم تشفِ الحقيقة غليل اللبنانيين بعد.
أحيل التحقيق في الانفجار إلى المجلس العدلي، فتم تعيين القاضي فادي صوان لتولي التحقيق، لكنه ما لبث أن تمت تنحيته لأسباب سياسية متعلقة باستدعائه رؤساء حكومات ووزراء وقادة أمنيين على علاقة بملف النيترات، وقد تذرّعت السلطة القائمة حينها بالارتياب المشروع بسبب تضرر منزله إثر الانفجار، علماً ان القاضي صوان كان قد تعرض لضغوطات كثيرة وتهديدات، حسب ما أفادت معلومات صحافية.
أثارت التنحية الريبة في صفوف أهالي الضحايا والجرحى والمتضررين، الذين تخوفوا من المماطلة في التحقيقات بهدف تمييع الحقيقة. تم تعيين القاضي طارق بيطار خلفاً لصوان لاستكمال التحقيقات، فاتبع بيطار المسار نفسه، وطلب الاستماع لشهادات سياسيين وأمنيين وموظفين، بينهم وزراء المالية والأشغال والنقل والداخلية سابقاً، علي حسن خليل، يوسف فنيانوس، غازي زعيتر، ونهاد المشنوق، بالاضافة إلى المدير العام للأمن العام عباس ابراهيم، والمدير العام لأمن الدولة طوني صليبا، وغيرهم من الضباط الأمنيين، وهو في طور استدعاء المزيد من الأسماء.
إلّا أن مسار التحقيقات لم يتوقف عند القضاء فحسب، بل تداخلت السياسة بحساباتها وتداعياتها لتزيد من قلق تطيير هذه التحقيقات والافلات من محاسبة المسؤولين عن التفجير، خصوصاً مع التطرق إلى ملف رفع الحصانات. فالمحقق العدلي طلب رفع الحصانات عن النواب نهاد المشنوق وعلي حسن خليل وغازي زعيتر، بحكم توليهم وزارة الداخلية والمالية والأشغال والنقل في وقت سابق، واذناً لملاحقة الوزير السابق يوسف فنيانوس من نقابة المحامين بكونه محامي ووزير أشغال سابق، بالاضافة إلى اذونات لملاحقة القادة الأمنيين من سلطاتهم.
حاولت السلطة القائمة مرةً أخرى التهرّب من تقديم المعلومات التي قد تساهم في الوصول إلى الحقيقة، تارةً عبر رد طلبات الاستدعاء ورفع الحصانات تحت ذريعة عدم استيفائها الشروط القانونية، وتارةً أخرى عبر الدخول في زواريب سياسية تضيّع البوصلة، كتحويل التحقيق إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء "الوهمي".
وفي سياق تداخل السياسة بالقضاء، تقدمت كتلة المستقبل باقتراح تعليق مختلف المواد الدستورية والقانونية المتعلقة بالحصانات، لنزع الأخيرة عن الجميع دون استثناء، من أعلى الهرم، أي رئيس الجمهورية، وحتى أسفله. ليقابله اقتراح قانون اخر من تكتل لبنان القوي. إلّا أنه "من أراد أن يُطاع طلب المستطاع"، فالتوازنات السياسية في البلد ستحول دون الوصول إلى الهدف، وعندها ستضيع الحقيقة في كواليس السياسة.
يبقى التحقيق العدلي هو الأمل الوحيد للوصول إلى الحقيقة ومحاسبة المسؤولين عن التفجير، وهو بمثابة الحق المقدس لأهالي الضحايا والجرحى وجميع اللبنانيين، وتبقى أي محاولة للتهرب من الحقيقة وإدخال القضية في بازار السياسة جريمة أكبر من جريمة التفجير نفسها، ستُشعل ناراً لن يكون باستطاعة أحد تحمل تبعاتها. رفع الحصانات واجب، ومن لم يخطئ لا يخاف، بل يواجه بالحقيقة، أما من كان يعلم، فليتحمل مسؤوليته علمه المسبق بوحود نيترات الموت وعدم تحرّكه.