Advertise here

وسائل التواصل الحديثة والتضليل الثقافي

29 تموز 2021 09:12:23

من أبرز النتوءات التي خرجت من رحم الإنفلاش الثقافي الذي يعتمد على وسائل التواصل الحديثة؛ كان ظهور إندفاعة جديدة باتجاه إنتاج ثقافة تضليلية، منها ما كان بخلفيات عفوية، ومنها يحصل عن سابق تصور وتصميم، ووراءه مطابخ معلوماتية تعمل على توضيب fake news "فيك نيوز" وتعممها لأهداف تجارية أو سياسية أو دينية. 

 

وعلى ضفاف نهر التشويش الثقافي الجاري؛ تنمو الطحالب السامة قبل أن تعود المياه المتدفقة وتجرفها نحو بحر الركود، او الى مطحنة الزوال، حيث تنطفئ فيهما جمرات الدعايات المُضلِّلة، بعد أن تكون قد حرقت شيئاً من الصفاء، أو أحدثت خدشاً في مساحة السواء الناصعة. وقديماً قيل؛ إطلاق الإشاعة الخبيثة على شخص أشدُ أذى من إطلاق الرصاصة عليه.

 

وسائل التواصل الحديثة أحدثت ثورةً في عالم الثقافة، وقرَّبت المسافات بين المُتلقي والمعلومة، ووسعت من محفظة الذاكرة البشرية ومكَّنت الإنسان من الوصول الى المعلومة التي يريد ساعة يشاء من دون عناء شراء الكتب، او التفتيش عليها في دُرَّر المكتبات العتيقة، ومن ثُمَّ قراءاتها في الأوقات المُحددة، حيث قراءة الكتب والمنشورات الورقية لا تصحُّ في أي مكانٍ وزمان.

 

لكن وسائل التواصل الحديثة هذه؛ تركت فجوةً كبيرة بين جدران حصونها تسللت منها أوبئة المعلومات غير الصحيحة، وقد بُنيت على بعض هذه المعلومات خيالاتٍ أدبية، ومواقف سياسية، وعلاجاتٍ دوائية، وإنطبعاتٍ ميثولوجية غير سوية ومخرِّبة احياناً، او أنها تُسبب ضرراً فادحاً للإنسان. وبعض هذه الأوبئة المعلوماتية يتفاعل مع المدى السيبراني من دون رقيب، فيُحدث إنفجاراتٍ علمية او ثقافية مؤذية لا تكون في حسبان الإنسياب العلمي او المعلوماتي المتوافق عليه.

 

فهناك شعوب بأكملها يطاولها التشويش حول فكرة، وتأخذ مواقف جراء صورة مغلوطة نُقلت الى ذاكرتها عن حدثٍ ما، أو عن ديانة، أو عن مرضٍ، أو عن علاجٍ، أو عن موقف، قد تكون هذه الصورة مجافية لحقيقة الحدث، وتتعارض مع أصوله، ومختلفة عن حقيقته المُثبتة. وعلى سبيل المثال؛ بعض مَن نلتقيهم في بلاد الغرب يتحدثون عن الإسلام على غير واقعه، ويخلطون بين سماحة الدين الحنيف وسلميته والمساواة الراقية التي يُنشدها، وبين التطرُف والتعصب والكراهية والإرهاب، وهو من كل ذلك براء، ذلك لأن بعض وسائل التواصل تنقل الى هذا الجمهور الواسع معلوماتٍ مُضلِّلة عن الإسلام، وتشوه صورته بمناسبة حدثٍ إرهابيٍ من هنا، او فتوى عشوائية من هناك، وكلاهما مبنيٌ على إنحرافاتٍ شخصية لا تمتُ الى الإسلام بصلة.

 

وتتمدَّد سهام التضليل الثقافي الى زوايا متعددة ومختلفة، لا تتطابق مع واقعة إحترام التعددية وحرية الرأي والتفكير، لأن النوايا الجُرمية للتضليل الثقافي تستهدف حرية الإبداع وإطلاق التفكير بالدرجة الأولى، وقد تكون "الفيك نيوز" العفوية منها او المدروسة بقصد التشويش والإيذاء؛ هي الوصفة السامة للإبداعات الفكرية والأدبية، ولغيرها من سياقات الحياة المختلفة، لأنها تحوُل دون الاستفادة من هذه الإبداعات والابتعاد عنها، لأن الغرضية التشويشية تكون قد فعلت فعلها في أذهانِ كثيرين من المعنيين فيها.

 

للحقيقة الساطعة ألف وجه، ولكن الهدف منها واحد، وهو خدمة الإنسان والصلاح العام ومعرفة اليقين، وعندما يتحول الهدف الى مراميَ شر وإيذاء وتشويش للعقول؛ تصبح الحقيقة بوجهٍ واحد لا يعرف التبدُّل والتلوُّن والإنحراف، وألوانها لا تقبل التأويل وواضحة كوضوح الشمس ولا يفصل بين نورها والعين غشاوة.

 

الانفتاح الثقافي ومعرفة اللغات ساهما في توسيع الخيال العلمي وفي تطوير البُنى التحتية للصناعات المتطورة وفي توحيد بعض الرؤى السياسية والإجتماعية، لكن المدارس المُقفلة التي تُنتج بعض الميثولوجيا الضارة، ساهمت في تعكير أجواء الانفتاح البشري، وطوَّعت بعض التكنولوجيا الحديثة لخدمة مشاريعها الخاصة. فهناك على سبيل المثال: شاشات تلفزيون مُشفرة تبثُ دعاياتٍ غريبة مصوَّبة باتجاه مجموعات محددة، تزيد من حالة التعبئة الضالة عندهم، كما هناك مطابخ لإنتاج الأفكار العقيمة التي تستهدف تقويض حالة الإنفتاح التي تعيشها البشرية، والغريب أن مثل هذه الحالات تستفيد من تطور وسائل الاتصال الحديثة لتسويق موبقاتها، من دون أي رادعٍ إخلاقي او قانوني يحد من إرتكاباتها.

 

تجهد العديد من المنظمات او الدول التي لها حساباتها الخاصة، في تعميم ثقافة التضليل، تحت شعاراتٍ واهية، غالباً ما تستخدم الواجهات الدينية، او الاعتبارات السياسية، او مفاهيم حقوق الإنسان، ولكنها في واقع الحال تهدف الى إجهاض مفاعيل الإبداع الناجح، وحرمان بعض المجموعات او الشعوب من الاستفادة منه، ليتسنَّى لها استغلال نتائج هذا الحرمان للحفاظ على مصالحها. ذلك على سبيل المثال ما تقوم به بعض المجموعات للتشويش على فوائد اللقاحات التي تحاصر جائحة كورونا، كأنما المقصود استمرار فتك الوباء بصحة شعوب معينة من دون أُخرى، او ربما بهدف النيل من قدرة العلم لمصلحة أفكار وعقائد ليست مُثبتة ولا يهضمها العقل البشري بسهولة.

 قديماً قيل: الأصيل لا تُغرقه التفاصيل، والجاهل يعمم الجهل.