تتجه الكتل النيابية لتسمية مرشحها تشكيل الحكومة الجديدة في استشارات ملزمة يجريها رئيس الجمهورية، ويكلّف بعدها الشخصية التي نالت أكثرية الأصوات، وفق المادة 53 من الدستور اللبناني الفقرة الثانية: " إنّ رئيس الجمهورية يسمّي رئيس الحكومة المكلّف بالتشاور مع رئيس مجلس النوّاب استناداً إلى استشارات نيابية ملزمة يطلعه على نتائجها"، وذلك بعد اعتذار الرئيس سعد الحريري عن استكمال مهمته التي اعترضتها الكثير من العقبات على مدى تسعة أشهر من محاولته تأليف الحكومة. وكان قد سبقه في تلك المهمة أيضاً الرئيس المكلًف، مصطفى أديب، الذي اعتذر عن التكليف نتيجة العقبات التي واجهته من رئيس الجمهورية، ورئيس كتلته النيابية جبران باسيل.
ليست المرة الأولى التي يعتذر فيها رئيس حكومة مكلّف من الأكثرية النيابية عن تشكيل الحكومة، إلّا أنّ اعتذار الرئيس سعد الحريري عن استكمال مسعاه تشكيل "حكومة مهمة" بعد تسعة أشهر من تكليفه، وما رافق هذا المسعى من عقبات وإخفاقات، بدأ من الكلمة التي وجّهها رئيس الجمهورية عشية الاستشارات النيابية محذّراً من أنّ تأليف الحكومة لن يكون كما التكليف، إلى رسالته التي توجّه بها إلى المجلس النيابي ويدعو فيها النواب إلى سحب تكليفهم للحريري، إلى العقبات والأخطاء المختلفة التي وقع فيها المعنيّون بتشكيل الحكومة، طرح جملة أسئلة لا بد من النظر فيها:
كيف ستتصرف الغالبية النيابية والكتل المعنيّة في التكليف، إذا قامت بتكليف رئيسٍ جديد لتشكيل الحكومة لا يتوافق وتوجّهات رئيس الجمهورية وفريقه السياسي والاستشاري، خاصةً وأن الرئيس نجيب ميقاتي، المرجّح تكليفه، سوف يلتزم المعايير والعناوين التي التزم بها الرئيس سعد الحريري، وقبل السفير مصطفى أديب، وبالتالي ما قيمة الاستشارات الإلزامية للكتل النيابية، وما قيمة رأي غالبية المجلس النيابي، إذا كان رئيس الجمهورية يرفض تسهيل مهمة الرئيس المكلّف، أو إعاقة مساعيه عن سابق تصورٍ وتصميم وإصرار؟
إن تعطيل مهمة الرئيس المكلّف من الغالبية النيابية، يُسقط القيمة الدستورية لتلك الاستشارات التي حدّدها اتفاق الطائف بالمُلزمة، كما يُفقد مقولة "المجلس سيد نفسه" التي يردّدها رئيس المجلس النيابي، نبيه بري. فالمسألة هنا ليست شكلية، والتعديلات التي أدخلها اتفاق الطائف على الدستور اللبناني، تُلزم رئيس الجمهورية التعاون مع رئيس الحكومة المكلّف لإعلان تشكيلته الحكومية والتي عليها نيل الثقة البرلمانية، كما أنّها تخضع لمراقبة المجلس النيابي. وإذا كانت لرئيس الجمهورية من ملاحظات على بعض الأسماء فيُمكن التشاور بها مع الرئيس المكلّف، لكنّه لا يحق له تعطيل مسار التأليف، أو إعاقته، أو فرض آليات معيّنة على طريقة التكليف.
إنّ رفض رئيس الجمهورية التعامل مع الرئيس المكلّف من الأكثرية النيابية، أو تعطيل مهمته بشكلٍ أو بآخر، لا يشكّل طعناً بالدستور وبالنظام البرلماني المعتمد في لبنان، حيث المجلس النيابي صانع السلطات، فحسب بل يضع الغالبية النيابية والكتل النيابية أمام موقفٍ لا تحسد عليه. فأيّ قيمة لتلك الغالبية إذا كان باستطاعة أقلية نيابية، أو رئيس الجمهورية، تعطيل مسار عملها سيّما وأنّ لبنان بشعبه ونظامه يعيش في نفقٍ مظلم.
السؤال الثاني يرتبط بتوازنات القوى الداخلية وتأثيرها على تشكيل الحكومة، حيث أن رئيس الجمهورية، مدعوماً من حزب الله، يشكّلان القوة الأساسية في لبنان، وهما ملتزمَين الانحياز إلى محور إقليمي عسكري – سياسي يتعارض مع موقع ودور لبنان العربي، وحيث تشهد المنطقة صراعاً إقليمياً – دولياً للعودة إلى الاتفاق النووي الذي وقّعته إيران مع مجموعة الدول الكبرى (5+1) في حزيران 2015، ولبنان يشهد حالةً من الانحدار والانهيار وصل فيها إلى المستوى الثاني بعد فنزويلا في تصنيف التضخّم المالي والاقتصادي، وارتفاع نسبة الفقر، حيث أكثر من 60 % من اللبنانيّين باتوا تحت خط الفقر ويحتاجون إلى مساعدة غذائية.
في ظلّ ميزان القوى هذه، ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة، وحيث حدّدت المبادرة الفرنسية مدعومةً من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، وبعض الدول العربية، شكلَ ونوعية ومهمة الحكومة الجديدة التي يجب أن تتولى تنفيذ برنامجٍ إصلاحيٍ شاملٍ كشرطٍ أساسي للحوار مع البنك الدولي والمؤسّسات الدولية المانحة، فهل تستطيع الحكومة الجديدة، إذا نجح الرئيس المكلّف بتشكيلها، تغيير المسار السياسي للعهد، والدفع نحو تنفيذ البرنامج الإصلاحي، والدخول في حوارٍ مع البنك الدولي الذي يرفض حزب الله شروطه؟
هل ستتمكن الحكومة الجديدة، إذا ما تشكّلت وفق معايير المبادرة الفرنسية، من وقف الانهيار الاقتصادي – الاجتماعي المتسارع، ونحن على مقربة من موعد إجراء الانتخابات النيابية، حيث سيتولى المجلس الجديد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وحيث يدخل العهد سنته الأخيرة بعد شهرٍ من الآن وهو لم ينجز أياً من الإصلاحات المطلوبة دولياً، وذلك في الوقت الذي يتوقع فيه العديد من المراقبين أن تستعر وتيرة التصعيد السياسي – الطائفي تحضيراً لتلك الانتخابات، وحيث سيتبادل المتنافسون الاتّهامات فيما بينهم حول أسباب التعطيل والانهيار، وارتكاب جريمة المرفأ، والمجلس النيابي الذي لن يسهّل المعنيّون فيه مهمة القاضي بيطار لإنجاز ملفه الاتهامي؟
وإذا كان تكليف الدكتور مصطفى أديب، وتكليف الرئيس سعد الحريري، قد جرى من موقع الالتزام بتنفيذ المبادرة الفرنسية، وحيث أنّ المبادرة الفرنسية بعد زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى أوروبا أصبحت مبادرة فرنسية – أميركية – أوروبية لمعالجة الأزمة اللبنانية، بعد أن فشل الرئيس الفرنسي وفريقه في تسويق مبادرتهم التي انطلقت قبل عام من الآن لعدم قدرتهم على إجبار إيران وحزب الله على السير في المبادرة وتنفيذها، على الرغم من أنّ الرئيس الفرنسي أعلن في قصر الصنوبر، وأمام السياسيّين اللبنانيين، أنّ المبادرة الفرنسية مرتبطة بمعالجة الأزمة الاقتصادية والإنسانية للبنان، فإنّ فرنسا كانت تعرف أن الحلّ في لبنان يرتبط بضوءٍ أخضر أميركي – إيراني، والرئيس الأميركي، الذي وضع في أولوياته العودة إلى الملف النووي، لن يفاتح إيران بالملف اللبناني وهذا ما فاقم الأزمة اللبنانية داخلياً وخارجياً.
نحن أمام تركيبٍ يحمل المأزق بداخله، لأن القوة اللّازمة لتعديل ميزان القوى اللبناني، وإنتاج "حكومة مهمة" تستدعي ضغطاً أميركياً على إيران. ولطالما أنّ هذا الأمر غير وارد في حسابات واشنطن فلن نصل إلى أي نتيجة مرضية، لذلك يرى بعض المراقبين أنّ المعادلة اللبنانية مرتبطة بتركيب المعادلتين الإقليمية والدولية. ولطالما هذه المعادلات لم يتم تركيبها بعد، فإنّ المسعى الأميركي – الفرنسي – السعودي سيبقى يراوح مكانه، ما لم تصل المفاوضات الأميركية – الإيرانية إلى برّ الأمان، حيث تتضح طبيعة العلاقة الدولية مع حزب اللّه من جهة ومع لبنان من جهة أخرى، وإلى ذلك الحين قد تتفاقم الأزمات في لبنان وقد تشتد الأزمة الاقتصادية تفاقماً.
يعتقد بعض المتابعين لأزمة تشكيل الحكومة في لبنان أنّ السفيرتين، الأميركية والفرنسية، قد شجّعتا على الاستعصاء الرئاسي لدفع الرئيس المكلّف سعد الحريري للاعتذار، وهذا الاعتذار قد أعطى الرئيس ميشال عون، مدعوماً من حزب الله قوة إضافية للتأثير في المسار السياسي المستقبلي للأزمة اللبنانية التي سوف تكون محكومةً بقوة عون وحزب اللّه، وبرضا فرنسي وأميركي، لذلك سوف نشهد المزيد من الهيمنة، والمزيد من الانحدار، وسوف نشهد المزيد من الاستعصاء أمام اللبنانيين إلى حين إعادة تركيب الحالة السياسية – الطائفية في لبنان على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب". وفي هذا السياق ترى المصادر المراقِبة أن أمام الرئيس المكلّف الجديد شهراً بأكمله لإنجاز مهمته أو الاعتذار، وهذا الشهر الذي عادةً ما يكون شهر الحرارة العليا مناخياً فإنّه أيضاً شهر التوتر العالي إقليمياً. وعليه سوف نرى أداء القوى السياسية في لبنان لاكتشاف من هي الجهة الحريصة على لبنان، ومن هم الذين يدّعون الحرص عليه في الداخل، أو في الإقليم، أو في الخارج، حتى نستطيع الجزم بما إذا كانت العقبات التي اعترضت الرئيس سعد الحريري في تشكيل حكومته قد زالت، وإذا كانت محلية أم إقليمية أم متشابكة، سيّما وأنّ ردود الفعل التي سُجّلت على اعتذار الحريري لا سيّما من الدول الكبرى الفرنسية – الأميركية لم تكن بمستوى الأزمة، وهذا ما قد يشجّع الرئيس ميشال عون وحلفاءه على تكرار مواقفهم واعتراضاتهم للرئيس الحريري مع سلفه الرئيس نجيب ميقاتي.