على عكس زيارته الماضية في أيار (مايو) 2021؛ أعطت جولة وزير الخارجية الصيني وانغ يي الى كل من سوريا ومصر في 17 و18 تموز (يوليو) الجاري إنطباعاً مختلفاً، وبدت كأنها ربط نزاع شرق أوسطي مع الولايات المتحدة الأميركية، وتأكيد حضور دبلوماسي لا يقتصر على تنمية العلاقات التجارية وتوسيع دائرة الشراكة في خطة "الحزام والطريق" فقط. وشملت زيارة وانغ يي الأخيرة للمنطقة، سوريا ومصر فقط، بينما مروحة زيارته الماضية كانت أوسع، وعرَّج فيها على إيران وتركيا والسعودية والإمارات العربية والبحرين وعُمان، ما يؤكد طابع البحث عن شراكة اقتصادية في الزيارة الأولى، والولوج الى الملفات السياسية الساخنة في الزيارة الثانية، او الأخيرة.
الكباش السياسي والتجاري بين الصين والولايات المتحدة الأميركية في أوجهِ، ومؤشرات تصاعد التنافس بينهما واضحة للعيان، ولم يُقلِّل من منسوبها صناعة الهدوء الذي اعتمده الرئيس جو بايدن بعد فصول الضجيج للرئيس السابق دونالد ترامب. والوفدان الأميركيان اللذان قصدا الصين منذ تولي بايدن للحكم؛ حملا حقائب فيها ملفات تتعلق بالمناخ وقضايا حقوق الإنسان ومواضيع مالية مختلفة، ولم تجر اتصالات عالية المستوى بين البلدين حتى الآن، رغم وجود عدد كبير من التقاطعات الشائكة بينهما، بدءاً من أزمة تايوان مروراً بملفات كوريا الشمالية وبحر الصين الجنوبي وقضايا الأمن السيبراني والعقوبات التجارية المتنوعة.
بدت زيارة وانغ يي الأخيرة، لا سيما إلى دمشق، كأنها موجهة ضد الولايات المتحدة الأميركية. والمواقف التي أعلنها من هناك؛ كانت مفاجئة، ووضع اقتراحات لحل الأزمة السورية كانت في معظمها تتطابق مع موقف النظام السوري، ومُتقدمة على الموقف الروسي في بعض الزوايا، لأن نقاط وانغ يي الأربع لم تُشر الى قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 2254 كقاعدة للحل كما تؤكد روسيا باستمرار، بل تناول موقف الصين عناوين تتعلق بحق الحكومة في بسط سيادتها على كامل الأراضي السورية ومحاربة الإرهاب والحفاظ على وحدة الدولة وإجراء مصالحة داخلية وإطلاق عملية إعادة الإعمار من دون إبطاء. ولم يتطرَّق الوزير الصيني الى مفاوضات جنيف حول تعديل الدستور ولا الى مسارات جنيف المتعددة ولا الى مندرجات مباحثات آستانا.
المراقبون ربطوا بين بعض التحدي الذي ظهر في موقف الصين تجاه الأزمة السورية وبين موقف الولايات المتحدة الأميركية من تايوان، خصوصاً بعد زيارة الوفد الأميركي للجزيرة الشهر الماضي. وتوقيت وصول وانغ يي الى دمشق مع بدء ولاية الرئيس بشار الأسد الرابعة لها دلالاتها ايضاً، خصوصاً بعد الانتخابات التي شابها الكثير من اللغط، حيث أكدت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي أنها غير شرعية، ولم تشارك فيها غالبية المقترعين السوريين النازحين والذين يعيشون خارج البلاد. وقد كانت لافتة تهنئة وانغ يي للأسد بالولاية الجديدة، مؤكداً أهمية دور سوريا في المنطقة، ولكونها تقع على تقاطع جغرافي مهم وسط طريق الحرير الجديد الذي أطلقته الصين.
ما يؤكد جوهر الرسالة الصينية التي تمَّ توجيهها عبر سوريا، تصريح نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون آسيا والمحيط الهادئ بيتر بروكس لقناة "الحرة" حيث اعتبر أن "الصين تعتمد سياسة إنتهازية تجاه سوريا، ولا تهتم لحقوق الإنسان ولا لمستقبل ملايين السوريين المشردين خارج سوريا خوفاً من قوات النظام"، ومن الواضح أن الصين لا تتخذ موقفاً من سوريا مجاملة لحليفتها اللدودة روسيا فقط، بل أنها تحمل توجهات خاصة بها تخفي مصالح جيوسياسية وتجارية، لا سيما لناحية تحصين علاقاتها مع دول المنطقة الرئيسية التي تستقدم منها إمدادات النفط والغاز وتحتاجها لأسواقها الصاعدة، وانسياب هذه الإمدادات قد يتأثر بسبب تزايد النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، لا سيما مع تفاقم الصراع التجاري بين واشنطن وبكين.
أما المهمة الصينية الأخرى التي حملها وانغ يي الى المنطقة فكانت في زيارته للقاهرة ولقائه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وكان فيها تأكيد لرغبة الصين في استمرار الشراكة التجارية مع الدول العربية والتي يصل حجمها الى ما يزيد على 240 مليار دولار في السنة، لأن الصين خافت من الالتباس الذي رافق مداولات مجلس الأمن الدولي حول سد النهضة الإثيوبي، حيث كان التنسيق واضحاً بين موسكو وبكين للحؤول دون صدور قرار عن المجلس، وذلك لرغبة البلدين في إجراء المزيد من المباحثات حول هذا الملف، وحلَّه بطريقة سلمية ترضي مصر والسودان وإثيوبيا في آنٍ. وبالفعل فقد أبدى الوزير الصيني استعداد بلاده لإجراء تواصل ووساطة مع الجانب الإثيوبي للوصول الى هذه النتيجة.
يبدو واضحاً أن الصين قررت الإنغماس في مشاكل الشرق الأوسط، وتوسيع مستوى حضورها الذي يزعج التوجهات الأميركية، وبالتالي هي تؤشر الى اعتماد مسارات سياسية، وربما أمنية جديدة، وعدم الاكتفاء بسياسة البحث عن توسيع اسواقها التجارية فقط، لكن ذلك سيحملها بطبيعة الحال مزيداً من المتاعب التي تجنبتها في الماضي.
*استاذ في العلوم السياسية والقانون الدولي العام