Advertise here

رسالة لافتة من جنبلاط: ألغوا راتبي!

03 نيسان 2019 12:00:00 - آخر تحديث: 03 نيسان 2019 12:34:24

نادر هو وليد جنبلاط. من قماشة تمزج الريف والمدينة، وتعبر طريق الحرير القديم، من الشرق إلى الغرب، وهو الذي يحّن إلى حرير الجبل الطبيعي بدلاً من الإصطناعي، وما يعكس ذلك من آفاق وحنايا في دواخله، تختصر حركة التاريخ والطبقات الإجتماعية والتحول الصناعي، بعاطفية وشاعرية، فيرسم السياسة كلوحة بلا أي قفازات. نادر وليد جنبلاط في صراحته، في ليونته داخل صرامته. يقدم حيث يحجم الآخرون، ويحجم حيث يندفع الطامحون أو المتطفلون. يجسّد جنبلاط بشخصه وعقله وفكره، ثورة بحدّ ذاته. ثورة على الذات، وعلى تقاليد لم تعد تتماشى مع الزمن، فتمتد يداه إلى الشرق والغرب معاً، ومعه تحوّلت المختارة إلى قبلة الدول المتناحرة والمتعارضة. وثورة على أفكار خشبية وخطابات لا تستثمر إلا بدماء الناس وثرواتهم.

ولأنه استثناء، يتعرّض لأعنف الهجومات. ميزة جنبلاط أنه يحالف بشرف، ويخاصم بشرف. وحتى في أشد تحالفاته لا يسكت عن الخطأ، وهذا تكرر بحق أكثر من طرف على تحالف إستراتيجي معهم، ولذلك لا يوضع أي موقف لجنبلاط في خانة تفصيلية أو مصلحية، وهذا ما يملي عليه اتخاذ مواقف غير شعبوية، يبدأ فيها بنفسه، وبإعلانه وجوب إلغاء كل الرواتب والتعويضات التقاعدية للنواب السابقين مثلاً. تفاجأ جنبلاط قبل أيام حين تمت مراجعته من قبل وزارة المال، لأجل التوقيع على بعض المعاملات لمنحه راتباً تقاعدياً قيمته 6 آلاف دولار. فاستغرب ذلك، واعتبر أنه ليس من العدل الحصول على هذا الراتب مقابل عدم وجود خدمات صحية وإجتماعية وتعليمية للأشخاص العاديين. وأكثر من ذلك، اعتبر أنه لا بد من إلغاء كل هذه العلاوات لأن النائب ليس موظفاً، ولا يستحق هذا الراتب. هذه إلى جانب ملفات أخرى تمثّل المدخل الحقيقي للصدق الإصلاحي، وللحد من الفساد والهدر. فسّر بعض التافهين كلام جنبلاط بأنه يطالب بالمزيد، وبأن المبلغ المرصود لتقاعده ليس عادلاً، وهذا ينمّ إما عن غباء وعدم فهم ما قصد الرجل وما يرمي إليه، وإما عن خبث يندرج في إطار الإفتعالات الخيالية للتصويب على الرجل غير المطواع. 

براغماتية جنبلاط السياسية، تتلاقى مع صراحة قلّ نظيرها. لا يراوغ حين يسأل، ولا يناور لحظة اتخاذ موقف. يجيد أكثر من لعبة في السياسة، يحسن نقل خطواته على رقعة الشطرنج، ويجيد إصابة الهدف بطابة أخرى، كماهر في البيلياردو، وهنا تكمن مهارته في تمرير الرسائل، فيضرب طابة ليصيب أخرى التي بدورها تدفع الثالثة إلى الهدف. وفي خضمّ إنتقاداته، غالباً ما يبدأ من نفسه. لا تنسى مواقفه إبان الحراك المدني وتظاهراته في العام 2015، حسن خرج معلناً أن السلطة السياسية فاسدة وهو شريك فيها، وبأن الشباب اللبناني يحتاج إلى تغيير حقيقي وفعلي يبدأ بالسلوك ولا ينتهي بالأشخاص. كان أول من اعتذر عن أحداث الحرب الأهلية، ودعا إلى محاكمة المشاركين فيها وليكن هو المبتدأ.

مواقفه هذه، هي التي تجعله عرضة لكل السهام، فيغدو المبتدأ والخبر، يصنع الحدث فيتحول إلى الحدث نفسه، بينما آخرون يحلمون في أن يتحوّل إلى حادث. إعتذاره المبكر عن أحداث الحرب الأهلية وارتكاباتها، دفع الآخرين إلى التصويب عليه، هم لا يحتملون ساسة من قماشة تؤمن بأن الإعتراف بالخطأ فضيلة، فضائلهم ترتكز على مرائضهم، فترتعد فرائصهم عند كلّ محطّة، عائدين إلى زمن غابر طواه أصحابه وغادروه، لكنهم كالتاجر المفلس الذي يلجأ إلى البحث في دفاتره القديمة. فلا يستعيد هذا التاجر نفسه، ولا ما خسر، يبقى في غياهب الزمن، ويمضي أيام حاضره على ما كان وليس إقداماً نحو ما سيأتي، فيعبر الزمان ولا يعبرون.

في حواره مع "الأنباء"، أعلن جنبلاط فصل الكلام، بدأ بنفسه قبل غيره، كما درجت مواقفه وعاداته، يستلهم من الماضي الجميل كما يستذكره، لبناء المستقبل، ليس مستقبله هو، بل مستقبل الشباب. بخلاف غيره ومستهدفيه، الذين لا يسعون إلّا لاستدراجه إلى دركهم، وإدخاله في حساباتهم المصلحية والتحاصصية ليس على حساب الناس فقط، بل على حساب العقل لصالح زمن التفاهة. لم يعد الزمن من قماشة جنبلاط وزمنه، استبدلت السياسة بالكياسة والرياسة، وغادرت الكتب رؤوس الساسة، لتحتلّها الشراسة والنخاسة. ما يتعرّض له جنبلاط ليس الهجوم الأول، من أحداث الجاهلية إلى المواقف في قداس دير القمر، وصولاً إلى كوابيس الأحقاد التي يعيشها البعض في صداعه، فيتربص بالآمنين سعياً إلى تعميم جو تهجيري جديد، استحضار لغة التهجير في لبنان وبيع صكوك التوبة والغفران، لا تنفصل عن حالات التهجير في سوريا، وصكوك البراءة والوطنية التي لطالما نصّب النظام السوري نفسه مانحاً لها لمن يواليه وحاجباً إياها عن معارضيه ممعناً في قتلهم واستهدافهم. استهداف جنبلاط يأتي لأنه خارج هذه المدرسة، ولأنه العائق أمام تعميمها في نماذج ومشاريع وعناوين مختلفة، من الممانعة، إلى التحالف المشرقي، أو تحالف الأقليات.