ربما يقول قائل إنّ الأفق مسدود، والطريق شاقٌ وطويل، والحلّ بعيدٌ ومعدوم نحو وطن يتساوى فيه الجميع في الواجبات والحقوق، بعد أن أنهكته التسويات وخرّبت دستوره الوصايات، وهمّشت مؤسّساته الطوائف، وحقوق هذا وصلاحيات ذاك، وعليٌ وعمر وجورج ومعروف، وكل الباقين.
وحتى لا يعيش الناس الأمل المستحيل، ولا تكون هذه الأزمة مقدّمة لحقوق جديدة لطوائف على حساب الوطن والمؤسّسات، وظهور رديفٍ للدولة يجعلها في مهب الريح؛ من أجل كل ذلك سيكون الأمل الوحيد المتبقي للخروج من الأزمات المتراكمة على مرّ السنين هو بتصحيح كل النظام على مبدا المساواة بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات، والرئاسات والمناصب والمسؤوليات، على اختلافها.
فالأزمة ليست كما يصوّرها البعض، أو كما يريد البعض تصويرها من أجل استغلالها. فالأزمة ليست فقط بالفساد والسلاح، وهيمنة القادة والميليشات، والمحاصصة والصفقات.
المشكلة أعمق بكثير من ذلك حيث تكمن في المضمون وليس بالشكل.
ولمقاربة هذه الأزمة للواقع، يتبيّن لنا أنّه عندما كانت أي طائفة، أو مسؤول ضمن طائفة يسيطر على قرار الدولة بقوة العقل، أو السلاح، أو الكتل، أو التحالفات، أو الوصايات، كان ينتج عن ذلك إما حربٌ، أو اغتيال، أو اجتياح، أو وصاية، ومن يتذكر التاريخ يعرف ذلك جيداً. فعندما سيطر الرئيس كميل شمعون على قرار الدولة في مرحلةٍ ما، وحاول التجديد قامت ثورة 1958، وكادت أن تؤدي إلى حربٍ أهلية. وعندما أصبح للشهيد كمال جنبلاط رؤية وطنية، والرأي المرجّح في بناء الدولة، تمّ اغتياله، وإنهاء مشروع الدولة العلمانية. وعندما سيطرت القوى المسيحية في السبعينيات (من القرن الماضي) على القرار كانت حرب الجبل. وعندما استقوى العماد ميشال عون بالطائفة خاض الحروب ضد كل الآخرين، وكان الاجتياح لقصر بعبدا. وبعد أن أتى الشهيد رفيق الحريري، وقاد بناء الدولة، وأنجز الإعمار، وفعّل المؤسّسات، شعر البعض بالتهميش، فكان اغتياله مقدمةً لانهيار الدولة أمام الدويلة، وإقصاء لطائفةٍ عن القرار. وها نحن اليوم نشهد سيطرة لحزبٍ على قرار الدولة وما جلب ذلك من هلاك ودمار على المؤسّسات، وربما لن ينتهي (الأمر) دون حربٍ، أو استجرار للوصايات، أو تغيير لشروط اللعبة الديمقراطية في لبنان.
وحتى اليوم لم ولن يعترف من هم في رأس الدولة والإدارة أنّ المشكلة الأساسية ليست كما يعلنون ويضمرون، إنّما المشكلة تكمن في النظام وتركيبته العجيبة التي تميّز بين لبناني وآخر على أساس الدّين والمذهب، وكأنّنا في زمن العبودية يوم كان الناس يساقون إلى أقدارهم عمداً، فينتج عن ذلك أناسٌ في الصف الأول، ولو كانوا عملاء، أو فاشلين، وأناس في الخلف، ولو كانوا وطنيين وأحراراً.
والخطأ الكبير، والذي يزيد الطين بلّة، ويُشعر بالاشمئزاز، أنّ رجال الدّين ما زالوا يدافعون عن حقوق ومكاسب طوائفهم، وامتيازات مواقعهم، في حين أصبحت رعيّتهم شتاتاً وأبناؤها فقراء، وأوطانهم ملاجئ للغرباء، وأعمالهم وأملاكهم مأوى للّاجئين، والمهرّبين، والغربان، وكل الوصايات.
لم يعوا بعد أن الوطن لا يكون وطناً إلّا إذا تساوى الجميع فيه في الحقوق والواجبات، وإلّا إذا شعر الفرد أنّه مسؤولٌ بالتساوي مع أخيه الآخر في المواطنية والانتماء. يومها يكون بناء الدولة هو مسؤولية الجميع، فلا أبيض ولا أسود في التصنيف.
والخطأ الاخر عندما خرجت المعارضة إلى الشارع، شعر كُثُر أنّ الأمل المستحيل أصبح قريباً من التحقيق، وإنّ الشارع سيكوّن نظاماً عما قريب، متناسين أنّ الشيطان يكمن في التفاصيل، وأنّ الفشل والتشتّت سيعم ويدب فيها، دون حسيبٍ ولا رقيب، ولا ناظم لأمرها، ولا موجّهاً لأهدافها، ولا أديباً، ولا ضابط إيقاع، بل تطبيل وتزمير، وصراخٌ وترشّح للانتخابات من الشمال إلى اليمين، مروراً بالفاشلين والفاسدين والوصوليين.
فكان الفشل حليفها وبدأ بعدها مشوار الترقيع والتقطيب، وكل ذلك حصل لأنّها لم تذهب إلى المضمون وبقيَت تحارب في الشكل تارةً وطوراً في التفاصيل. ففريقٌ منها يلعن الفساد، وفرقةٌ تحمل السلاح حملاً ثقيلاً، والبعض منهم من امتحن الكلام، ودرّس في الشفافية والنزاهة ونصوص القوانين، ومن يردّد الشعارات لمجرد أنّه في الشارع حزين، فيطالب باستعادة الأموال المنهوبة، وتشكيل حكومة اختصاصيين، وكل هذه الشعارات تُعتبر مهمة لو كانت هناك دولة ومؤسّسات، وقضاءً نزيهاً، ولكن لا يمكن الحصول عليها من دولة قرارها مشتّت، ورأسها في الرمل، وأرجلها في الطين، ويمسك بدستورها ومبادئ قيامها أشخاصٌ ليس بيدهم حيل، في حين كان من الذكاء لو حدّدت هذه المعارضة شعاراً واحداً وتوجهت به إلى الداخل والخارج بصفٍ واحدٍ ورؤية ثاقبة، وإرادة صلبة، وعنونت هذا الشعار بكلمات واضحة تتلخص بتصحيح النظام عبر تعديل الدستور، وبعد تعليق العمل في جميع المؤسّسات التي تعنى بتطبيق الدستور من الرئاسة الأولى، والثانية، والثالثة.
يقول البعض إنّ ذلك مستحيل، فأقول إنّه في الماضي القريب، وليس البعيد، خرج اللبنانيّون في 14 آذار مطالبين بالانسحاب السوري من لبنان، في حين لم يكن أحد من القادة يأمل بتحقيق ذلك، فكان أقصى الأمل عندهم هو إعادة التموضع، وكف يد التدخل المباشر عن لبنان. ولكن ما حصل فاجأ الجميع، وكانت معركة التغيير، لكنها ليست نتاج مطالبة من الأحزاب والقادة، ولكن هو فعل إيمان من الشعب بالقدرة على تحقيق هدفه، إلا وهو الاستقلال، وبعدها تبع القادة إرادة الشعب.
أمّا اليوم، فمن يعتقد أنّ هناك فرصة للنجاح بتشكيل حكومة، أو انتخابات، أو تسوية، إنّما هو يدري أنّ ذلك تمديد للأزمة، وتمديد للحل في آن، لأنّ الأمل في ذلك مستحيل، والوعد مع القدر غير مضمون، وحلم قيام لبنان لن يأتي من "البابا"، أو "الماما الحنونة"، أو "الجارة"، أو رجال الدّين الطامحين إلى زيادة حقوق طوائفهم على حساب الوطن الجريح.
فالحل يكمن في إرادة حرة نحو تعديل النظام والصيغة ولو كان ذلك مكلفاً، فكفانا ترقيعاً وتجميلاً لأنّ
لبنان أصبح عاجزاً لا يصحّ معه إلّا الصحيح.