Advertise here

قراءة إضافية في إطلالات وليد جنبلاط الأخيرة

29 حزيران 2021 21:58:25 - آخر تحديث: 29 حزيران 2021 21:58:26

شكَّلت إطلالات رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي، وليد جنبلاط، الأخيرة حدثاً لبنانياً لا يمكن القفز فوقه، برغم الضباب والغبار المُخيف الذي يسيطر على المشهد من جرّاء التـازُّم غير المسبوق في الوضعين السياسي والمعيشي في البلاد. وحصر الإضاءة على الحراك الجنبلاطي في جانب دون الجوانب الأُخرى فيه مجافاة للحقيقة، ويصل إلى حد استثمار ما جرى لأغراضٍ فئوية ومحورية وحزبية ضيقة. وقراءة  الرسالة التي تحمل أبعاداً وطنية ومصيرية وإنسانية بأحرفٍ مسمارية مبركشة، وسماعها بأُذنٍ مهووسة بصويّ البرية، لا يقتفي إلى سبيل.

ومن بابٍ أولى الإشارة بدايةً إلى لقاءات جنبلاط مع رجال الدّين في الجبل من طائفة الموحدين الدروز، ومن رجال الكنيسة المارونية وغيرهم. وللأمر بعدان: الأول إشارة إلى أنّ ما يجري في البلاد يحمل وضعية استثنائية وتاريخية، وقد تكون له انعكاسات على مستقبل الوطن. وفي هذه اللقاءات تأكيد على التمسُّك بالثوابت في حفظ التعاون والعيش الواحد في الجبل وفي غير الجبل، وفيها توضيح إضافي على أن العقل والحكّمة هما المرتجى لمواجهة عواصف الانهيار التي تُهدد الوطن وركائز الدولة. ورجال الدّين الذين لا يتدخلون بتفاصيل الحياة السياسية اليومية، لهم دورٌ أساسي، ورمزية مؤثرة في المحطات المصيرية.

أمّا الوجه الآخر للأهداف الجنبلاطية  فهو في تأكيد حضور بني معروف في المعادلة اللبنانية، بصرف النظر عن الإشارات الديمغرافية التي تتناولها بعض الوسائل الإعلامية، أو وسائل التواصل "التخريبية"، كما أسماها جنبلاط، والتي تشوّه الحقائق وتُثير النعرات، وتضرب الأعداد مُضاعفةً في أماكن - وتُقسِّمها في أماكن أخرى، ومن ثُمَّ "تُقسِّم المقسَّم" لغايات ارتهانية معروفة. وتأكيد هذا الحضور لبني معروف لا يخضع لحسابات الانقسام الحزبي، ويتم التعاطي معه بوحدة موقف معروفة تاريخياً لدى العشيرة العربية، على اعتبار أنّ المغامرات العبثية التي يقود إليها بعض المتهورين من وجهاء ساسة اليوم قد تقود إلى بلورة مقاربات تأسيسية جديدة في زمنٍ صعبٍ جداً. وتجربة السنوات القليلة الماضية سلَّطت الضوء على انحرافات حُكمية غريبة (كبدعة الحكم من خلال المجلس الأعلى للدفاع، على سبيل المثال)، بدت كأنها لا تأخذ بالاعتبار مكانة "السوسيو- بوليتيك" اللبناني، وبالتالي فإن الكلام عن مثالثة، أو عن تبادل مواقع الرئاسات دورياً على الطوائف الثلاث الكبرى، يعني بطبيعة الحال تهميش طوائف الصف الثاني بالعدد – ومنهم الدروز – وهؤلاء دفعوا ثمناً غالياً من حضورهم السياسي من أجل تأسيس الكيان وتدعيمه، وقد يصل الانحراف عند بعض الهواة إلى اعتبارهم تفصيلاً ملحقاً بأحد المكوّنات، وهذا مرفوض منهم بالإجماع كونهم طائفة مُؤسِّسة، رغم أن غالبية الدروز ينشدون إلغاء الطائفية من الحياة السياسية اللبنانية.

وفي لقاءات جنبلاط المختلفة في المختارة، وفي مطرانية بيت الدين، وفي الجرد وعاليه وبيصور والوردانية - بعد العبور المهم على محطة برجا، وصولاً إلى خلدة - تأكيدٌ على أولوية الاستقرار والسلم الأهلي في الجبل، وفي كل لبنان. وهو لا يُقيم أي اعتبار لشكليات اللقاءات، بل المهم أن تصل الرسالة إلى الجميع بأنّ الخلافات السياسية والتباينات الحزبية هي تفصيلات صغيرة أمام الاستحقاقات الوطنية المصيرية التي فرضتها الكارثة الاجتماعية، والصحية، والمالية على البلاد. وجنبلاط كان قد رفع منذ ما يقارب السنتين شعار، "لن أسمح بأن لا يتمكن أي مريض من دخول المستشفى، ولا أي محتاج من دون الحصول على طعام، في كل المناطق التي أستطيع التأثير فيها، ومن دون أي تمييزٍ طائفي أو حزبي. وهو لم يكُن شريكاً في السلطة طيلة هذه المدة، بمعنى أنّه كان يمكن أن يلقي هذه المسؤولية على الدولة بالكامل كما فعل غيره، ولكنّ جنبلاط لا يتعاطى بالسياسة من باب الكسب الحزبي والانتخابي، وتغلُب على اهتماماته الهواجس الوطنية والمصيرية على الدوام، فكيف إذا كان ما يجري وصل إلى حد وصف تقرير البنك الدولي  بأنّه سياسة مقصودة أدّت إلى الانهيار المالي؟

وطبعاً، في استكمال هذه القراءة الإضافية لمواقف جنبلاط الأخيرة، لا بدّ من التعريج على موضوع الخيارات السياسية الكبرى، أو التكويعات التكتيكية. فهذه السِمات ليست جنبلاطية بالأساس، بل قواعد مشروعة في العمل السياسي تفرضها المصلحة الوطنية أو الحزبية. ولكن واقع الحال يقول بأنّ لقاءات جنبلاط لم تكُن بهدف اعتماد خيارات محورية جديدة، أو للتقارب مع قادة النظام في سوريا، والتي سبق لدول كبرى أن عرضت مساعٍ في هذا الاتجاه، إنّما هدفها تعزيز وحدة الجبل عامةً، لأن أبلَغ تهديد للوحدة الوطنية غالباً يحصل عند استهداف الجبل، وقديماً قيل، "إذا الجبل بخير لبنان بخير ". وجنبلاط سبق أن أعطى التوجيهات لحزبه لتنظيم لقاءات مع كل القوى الحزبية في الجبل على اختلافها، وهو شخصياً حاور فعاليات جبلية لا تُكنُّ له الود من أجل الاستقرار العام، ولمواجهة الكارثة التي تُهدّد حياة المواطنين، كما أنّه وفَّر بيئةً مناسبةً لمجموعات الحراك المدني، وشجّعهم وحاورهم في أكثر من مناسبة، باعتبارهم فئة أساسية متضررة من الأوضاع المزرية التي تعيشها البلاد.

أمّا فيما يتعلَّق بالملف الدرزي الداخلي،  فالأرجح أن جنبلاط قصد تطمين الجميع بأنه لا يرغب بالاستئثار بأي موقعٍ لحسابه، والمواقع كلها للطائفة جمعاء، وهو غير مستفيد من الحالة الراهنة. ولكن في نفس الوقت يُدرك، والمفترض أن يُدرك غيره أنّ غالبية الدروز لا يسيرون بالولاءات الفطرية في مقاربة الملفات الداخلية أو الخارجية، خصوصاً أنّهم أصبحوا من الطوائف الأغنى بالمتعلّمين والمثقفين. وهذا يفرض على القيادات الدرزية اعتماد معايير الكفاءة وقواعد القانون، والاستناد إلى المقاربات الديمقراطية، وإلى الشورى في أي من الاستحقاقات القادمة، وخصوصاً منها انتخاب رئيس وأعضاء المجلس المذهبي، كما في الوظائف التي تخصّ الدروز في مؤسّسات الدولة.