العفو من شيم الكرام

29 حزيران 2021 16:08:21 - آخر تحديث: 29 حزيران 2021 19:50:45

فيما يدور الزمن دورته وتتغير هموم الناس وأولوياتهم وأحياناً تجنح بك الذاكرة لأن تخرج من مستنقع الهموم الداهمة والتي تشغل تفكيرك حيث ترتسم هواجس الناس حول أزمات المرض والجوع وتهالك الهم السياسي الوطني أمام الشخصي بالخداع والتزلف فتسقط أحلام الغد الواعد لأجيال في عمر الورود ولا يملك الأهل المغلوب على أمرهم والمأمورون ذاتياً وأخلاقياً بكبح مظاهر العنف والماسكون على جمر الصبر  والمتداركون للوقوع في خطيئة الجهل والفقر والكيد، سآخذك قارئي العزيز إلى سجل القيم الوطنية عند تلاميذ المعلّم كمال جنبلاط، سيان أكانت التلمذة في حزبه التقدّمي ومنظماته أم كانت في عمق الولاء لمدرسته الراشدة في سمو الأخلاق...

في 31/12/1981 كانت تتضارب عناوين اليوم الآتي بين السنة الجديدة وذكرى إنطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، فتنشط العصبيات وتتوالد الأخطاء وكل يغني على ليلاه دون إحتساب لمشاعر الآخر المختلف في الرؤية والطريق والهدف، وهذا ما حصل في الكفير العامرة بالأخلاق والتاريخ التي تستضيف قواعد لوجستية لأخوتنا في الثورة الفلسطينية وكانت الخسارة جسيمة للأهل والرفاق والأصدقاء لفتىً واعد يضج حيوية وطموحاً وأملاً وهو من طلائع فصيلنا المقاتل في البلدة المرحوم فضل الله سليمان هواش الحلبي.

سارع مسؤولو فتح في القطاع الشرقي إلى إحتواء الفاجعة فالشرخ مع الحلفاء ومجمل الناس يتسع وردات الفعل مخيفة جداً لما يحظى به الفقيد من مودة وعمق تضامن مع أهله ورفاقه وكان ما حصل هو نتيجة عملية إلى غلبة الجهل والطيش والغرور على تصرفات البعض، أول رد فعل كان إعتقال الجاني وسوقه إلى العدالة بما تقضي أعراف المجتمع وأخلاق الثورة. أما القرار الآخر فكان في منع مرور كافة السيارات والمواكب التابعة للمقاومة على طريق الكفير الموصل بين حاصبيا وراشيا حتى يتم حل المعضلة بالتشاور مع الاهل الفاقدين لفلذة كبدهم دون مراعاة لكل المواعيد والإتفاقات وهذا ما حصل.

نشطت الإتصالات بين حزبنا التقدّمي والأخوة في فتح على أعلى المستويات بمساهمة صادقة من أعيان منطقتي حاصبيا وراشيا ورجال الدين الأفاضل ورفاقنا في المجلس السياسي الإقليمي للحركة الوطنية في حاصبيا بمواكبة من قيادة الحزب وبرعاية فائقة من الرئيس وليد جنبلاط ومفوض التعبئة آنذاك المرحوم المناضل أنور الفطايري والرفيقين المرحومين طارق شهاب وعادل سيور والرفيق توفيق سلطان أمدّ الله بعمره كلٌّ من موقعه حتى تم الإتفاق على إجراء المصالحة يوم الجمعة في 4 حزيران 1982 في موقف ٍ صادق وشجاع من أهل الفقيد تمثل بخطوتين جريئتين نالا ثناء المجتمع وتقدير القيادة:

1-  العفو عن القاتل وهو المحكوم من قيادته بالإعدام.

2-  إستقبال القيادة الفلسطينة في مجلس الكفير لتقديم التعازي والإعتذار.

في ذلك اليوم المشهود تقاطرت وفود الأصدقاء والفعاليات والرفاق من حاصبيا وراشيا والبقاع الغربي لتكريس المصالحة حيث أوفد القائد الفلسطيني ياسر عرفات وفداً رفيع المستوى يتقدّمه المناضل هايل عبدالحميد (أبوالهول) وأمين سرّه الخاص الصديق عصام سالم وبرفقتهم ثلّة من قادة الوحدات الفلسطينية، فيما كان مع الأهل في الكفير إضافة إلى الرفاق وفد حزبي تقدّمي أوفده الرئيس وليد جنبلاط يتقدّمه المرحومون الرفاق طارق شهاب (نائب الرئيس الأول) وعادل سيور (مساعد أمين السر العام) وسعيد الضاوي ( وكيل داخلية الجنوب) إضافة إلى الرفاق الحلفاء في الحركة الوطنية اللبنانية ورجال الدين الافاضل والأعيان وكل من عمل بصبر وعناد من أجل إتمام المصالحة.

وعلى عادة أهلنا ومنطقتنا كانت الدعوة إلى إستراحة قصيرة للقيام بواجب الضيافة والتكريم ولقمة الممالحة.

وفيما لقاء التكريم في بداياته والإرتياح للخطوة يغمر الجميع تبلغ أخوتنا في فتح عن بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية العدوانية على المدينة الرياضية في بيروت ليليها ليلٌ طويل من القهر والظلم وشرف الجهاد.

وأمّا ما يبقى في الذاكرة ولا تمحوه الأيام فهي مكرمة العفو عن قاتل جاهل لأعز نبوءة في الأحلام والمستقبل فإلى روح المرحوم سليمان هواش الحلبي وبنيه وأهله وجيرانه ورفاق إبنه الشهيد والإرث الطيب في قيم الأخلاق والتوحيد وصفاء المنبت الرحمة والرضوان ولتبق شعلة الوفاء قنديلاً يضيئ درب الظلام.

التحية لكل الذين ساهموا في إنجاح هذه الخطوة المباركة من رفاق في قيادة الحزب التقدّمي في منطقة حاصبيا في قطاع الحدود الأول والمعتمدية، وإلى كل الرفاق في الحركة الوطنية اللبنانية وإلى رجال الدين الأفاضل وعمائمهم البيضاء وإلى الأوفياء الذين صدحوا بدعواتهم لإجتناب الشر ونبذ الفتنة والعض على الجراح والصدق مع العروبة وتقدير الثورة وتضحياتها وإلى قادة أبرار قضوا وما بدلوا تبديلا، بهؤلاء جميعاً، إكتملت أيقونة المعلّم كمال جنبلاط عن الفقراء الذين ليس على صدورهم قميص...