Advertise here

التّفاهمات المخفيّة بين الابتزاز والاستفزاز

27 حزيران 2021 09:37:29

باتت معالم الاتفاق المرتقب بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية شبه واضحة، وأصبحت الأسابيع القليلة المُقبِلة ورشة تجهيز لإحياء الاتفاقية النووية JCPOA بين طهران وكل من واشنطن وبيكنغ وموسكو ولندن وباريس وبرلين، بهدف توقيعها قبل موعد تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، إبراهيم رئيسي، في 8 آب المقبل.
 
ليس عرقلة، حسبما يبدو، أن يبقى رئيسي على قائمة العقوبات الأميركية بالرغم من ثقلها الرمزي، لا سيّما أن مرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي هو أيضاً تحت العقوبات. فالبراغماتية الإيرانية تترفّع عن الرمزية وهي تقتضي رفع العقوبات عن إيران كأولوية إنقاذاً للاقتصاد. حصلت طهران على معظم ما تريده من رفعٍ للعقوبات، بما سيشمل رفع العقوبات النفطية الفائقة الأهمية للصفقات الموقّعة مع الصين والهند وغيرها. وهي أنجزت لنفسها، بفضل إدارة بايدن، تحييد مسألتين أساسيتين لها عن الصفقة، هما: مسألة الصواريخ البالستية، ومسألة السلوك الإيراني الإقليمي القائم على استنساخ النموذج الإيراني في الدول العربية، بحيث "الحشد الشعبي" في العراق و"حزب الله" في لبنان يشكّلان قوات غير نظامية ولاؤها أوّلاً لـ"الحرس الثوري" الإيراني ومهمّتها تنفيذ أجندته. هذا مع امتلاك حكّام طهران أدوات تأثير على واشنطن جديدة نوعيّاً في ظل احتفاظها بزمام المبادرة لقلب المقاييس على أي ضغوط أميركية في مجال الصواريخ والسياسة الخارجية الإيرانية. بكلام آخر، سيكون الابتزاز سيّد الساحة عبر تفعيل النشاطات النووية والإقليمية وضد القوات الأميركية لتخويف واشنطنواحتوائها بعد موافقة الرئيس جو بايدن على الاستغناء عن أداة العقوبات ذات الأسنان.
 
سيتوجّه الرئيس بايدن الى الشعب الأميركي ليجمّل beautify الصفقة ويقول إن ما حصلت عليه الولايات المتحدة هو احتواء الخطر النووي الإيراني واستبدال، بالمواجهة، التأثير المباشر في السياسات الإيرانية الخارجية. سيفسِّر عدم اقتناعه بنموذج الحكم الثيوقراطي في إيران بدعواته المتكرّرة الى الكفّ عن الاستبداد والتسلّط داخل إيران. وسيتخذ إجراءات تجميلية cosmetic مثل إغلاق مواقع تواصل إلكتروني ليبلّغ الشعب الإيراني أن اهتمامه بحقوق الإنسان مستمر، وأن الديموقراطية ستقف في وجه الثيوقراطية. لا الرأي العام الإيراني المكبوت سيتمكن من تحدّي أطروحات بايدن، ولا الرأي العام الأميركي سيكترث لو كانت الصفقة مع الشيطان ما دام يبلع "الحبّة" النووية.
 
تاريخ الرئيس الإيراني المتطرّف والمتشدّد لا يُهمّ الفرد الأميركي حتى وإن كان هذا التاريخ جليّاً لجهة مسؤولية إبراهيم رئيسي في القمع الدموي للمتظاهرين، وبتعذيب واعدامٍ جماعي لنحو 5 آلاف ـ بمن فيهم نساء وأطفال ـ من مجموعة معارضة عام 1988. لا يهتم الأوروبيون أو الأميركيون بما حصل في الانتخابات الرئاسية الإيرانية من إقصاء للمعتدلين بنزعٍ لقناع الاعتدال الذي سبق ووجدوه مفيداً، ومن تجريد العملية الانتخابية من صلبها. فأتى "تعيين" رئيسي في منصب الرئاسة بقرار من مُرشِد الجمهورية و"الحرس الثوري" المشرف على السياسة الخارجية، بل الحاضر للحكم صراحةً في إيران.
 
ما سيحدث في أعقاب التوقيع على الاتفاقية النووية هو "فترة سماح" تمتنع الجمهورية الإسلامية خلالها عن تفعيل نشاطاتها الصاروخية والإقليمية، فيبدو ظاهريّاً أن إحياء هذه الاتفاقية قد أثّر حقاً في السلوك الإقليمي. ستدوم فترة السماح لبضعة أشهر فقط كي يترسّخ الانطباع قليلاً بأن الصفقة شملت الحصول على ضمانات من حكّام إيران بتغيير النهج الإقليمي.
 
جوهريّاً، ليست هناك ضمانات مكتوبة بعيدة الأمد، فالجمهورية الإسلامية الإيرانية ترفض قطعاً تقديم الضمانات الأمنية الدائمة لإسرائيل أو الالتزام بلجم "حزب الله" ضمن اتفاق مُدوَّن. ترفض غسل أيديها من اليمن سوى بتوقيت يُناسبها وفي إطار الحديث الإيراني - السعودي الذي يجري ويشمل مستقبل الترتيبات الأمنية في منطقة الخليج.
 
ترفض السماح للحشد الشعبي في العراق بأن يندمج حقاً في المؤسسة الحكومية ويكفّ عن الاستفزاز والابتزاز عراقياً وأميركياً، فهو ورقة ضغط ثمينة لطهران في إطار علاقاتها الأميركية. في سوريا، مشروع الجمهورية الإسلامية الإيرانية مستمر ودائم حتى في وجه بعض الاعتراض الروسي. وفي لبنان، يبقى "حزب الله" الذخيرة الأهم والأقوى في مشاريع "الحرس الثوري" الإقليمية، وهو عازم على تدجين لبنان وتقوية سيطرة "حزب الله" عليه داخلياً كما على حدوده السورية والإسرائيلية.
 
هناك تطمينات شفوية من الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأنها ستُخفّف نشاطاتها العلنية وتؤجّل إجراءات سياساتها الخارجية للأشهر الثلاثة المقبلة التي تلي التوقيع على الاتفاقية الجديدة في فيينا. جزء من الأسباب وراء ذلك يدخل في خانة تجنّب إحراج الرئيس جو بايدن، وكذلك القيادات الأوروبية التي نفّذت لطهران ما أرادته في المفاوضات النووية. والجزء الآخر يتعلّق بالاستراتيجية الإيرانية بعد الانتخابات الرئاسية.
 
الاقتصاد أوّلاً. هذا حجر أساس في الاستراتيجية وهو يتطلّب ضمان رفع العقوبات كي يتمكّن الرئيس الجديد من حصاد استثمارات سلفه حسن روحاني في الصفقة النووية من دون أن يتحمّل مسؤولية الصفقة السياسية. يتطلّب أيضاً تجنّب الاستفزازات الإقليمية مرحليّاً ولفترة محدودة. لكن صلب السياسة الخارجية يبقى على ما هو عليه. فهذه فترة استراحة لربما، وليست تحوّلاً جذريّاً في عقيدة النظام في طهران.
 
روسيا تلعب دوراً في إطار الحصول على تطمينات إيرانية تحتاجها إدارة بايدن بالذات مع إسرائيل. وبحسب تقدير الروس، الكرملين قادر على تهدئة سلوك إيران العدائي وضمان شهرين أو ثلاثة لسلوك مُعتدل. أما بعد؟ فسنرى.
فليس في اتفاقيات فيينا أي التزام ببرنامج عمل أو برنامج زمني لبحث مسألتَي السلوك والصواريخ. ولا أحد يعرف، سوى حكّام طهران، مستقبل السياسة الخارجية الإيرانية على المدى البعيد. فهم يتحدّثون لغة التفاهمات والتطمينات الصامتة. وهم يقرّرون مستوى الودّ والعداء. إنهم متمسِكون برفض الالتزام في مذكرات مدوَّنة. وقرارهم اليوم هو عدم المغامرة حِرصاً على ضمان رفع العقوبات. فالأولوية اليوم هي للاقتصاد. أما السياسة الخارجية، فلاحقاً.
 
مفاوضات فيينا تسير على ما يرام بعد انتخاب رئيسي بالرغم من الإجراءات الأميركية بمصادرة 33 موقعاً إلكترونياً إيرانياً، وبالرغم من استمرار العقوبات الأميركية المفروضة على الرئيس الجديد بسبب سيرته ومسيرته المتطرّفة، بل والإجرامية، في نظر الكثير من الإيرانيين. لن يتم رفع العقوبات العسكرية، لكن هناك اقتراحاً لتسوية المواقف المتباعدة خلاصته ألاّ يشمل الحظر العسكري قدرة إيران على شراء الأسلحة الدفاعية، مع استمرار الحظر على الأسلحة الهجومية. إنه الحل الوسط المطروح. والأسبوع المقبل، أكدت المصادر المطّلِعة، سيُعقد اجتماع أمني وعسكري على أعلى المستويات لمعالجة هذه المسائل وإزالة العراقيل أمام توقيع الاتفاق قبل 8 آب.
 
ماذا عن إسرائيل في خضمّ الودّ بين أميركا - بايدن وإيران - رئيسي وتقاطع الودّ مع صفقة إزالة أدوات العقوبات لوقف طهران عن النهج العدائي وعن المضي بقدراتها النووية، بالرغم من إحياء الاتفاقية النووية؟ التهادنية التاريخية في العلاقات الثنائية المباشرة بين الفرس واليهود ما زالت تفرض نفسها على العلاقات اليوم بين الدولة اليهودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية. إنها التفاهمات الصامتة في لعبة شدّ الحبال بين اليمين المتطرّف الحاكم في إسرائيل والتطرّف الثيوقراطي الحاكم في إيران.
 
إدارة بايدن والحكومات الأوروبية - ومعها إسرائيل الى درجة أقل - أقرّت بأن لا مناص من مباركة الأمر الواقع لتسلّط الحرس الثوري على السياسة الخارجية الإيرانية، وتعيين إبراهيم رئيسي عمليّاً عبر انتخابات مركّبة. هذا الرضوخ سيكون رهن امتحان التاريخ لأن تداعياته رهيبة. أما الآن، فإن النصر الإلهي الذي سيحصده حكّام الجمهورية الإسلامية الإيرانية بفضل الأوروبيين وجو بايدن، سيكون السلاح الذي سيُستخدم في معادلة الابتزاز والاستفزاز التي يتقنها رجال الثورة الإيرانية بدهاءٍ بارع.