Advertise here

خطة النقل وقامات الجهل

25 حزيران 2021 10:32:45 - آخر تحديث: 25 حزيران 2021 10:34:34

في آخر حكومة ترأسها الرئيس الشهيد رفيق الحريري كنت وزيراً للثقافة. كانت معركة حول النقل المشترك وكنا خارجين من أزمة مالية كبرى. وكان صراع حول الكهرباء والخلوي. أصررنا على أهمية النقل العام وتفعيل مصلحة النقل المشترك، وانتهت المعركة بقرار حاسم من الرئيس الشهيد تبناه مجلس الوزراء، قضى بتخصيص مبلغ 250 مليار ليرة لبنانية (آنذاك قيمتها مرتفعة جداً) لشراء باصات حديثة والمساهمة في حل مشكلة النقل وكلفتها على المواطنين وقتاً ومالاً. للأسف المسؤولون القيّمون على الأمور المالية والإدارية المعنية بالنقل لم ينفذوا القرار. والسبب يعود الى ذهنية ترفض النقل العام وتصرّ على الخصخصة وبالتالي ترك مسألة النقل بيد الشركات الخاصة!! استمرت معركتنا في الاتجاه ذاته. واستمر صراعنا مع هؤلاء. استشهد الرئيس. جاؤوا هم الى مواقع المســـؤولية فكان من الطبيعي أن لا يبادروا الى تنفيذ القرار مع تفاقم الأزمة. شاء القدر أنني عيّنت وزيراً للأشغال عام 2008. استمررت في خوض المعركة في وجه الذهنية ذاتها والمسؤولين أنفسهم، والإصرار ذاته على ضرب النقل العام.

في ذلك الوقت كانت أزمة مالية عالمية كبرى. كساد وبطالة. تدفقت طلبات من شركات عربية وعالمية شرقية وغربية تحمل عروضاً ببيعنا باصات بما يفوق المطلوب والمرصود له مبلغ ال 250 مليار ليرة الذي فقد شيئاً من قيمته. شركات عرضت بيعنا أكثر من 500 باص وتقسيط الدفعات، أو إدارة القطاع على مسؤوليتها دون أن نتكلف أي مبلغ من المال ضمن اتفاق بينها وبين الدولة اللبنانية. لم يوافق المعنيون على أي فكرة. هاجسهم القطاع الخاص فقط!! المعركة باتت أصعب والفضيحة أكبر. لا يريدون تنفيذ قرار مجلس الوزراء، ولا يتفاعلون مع اقتراح وزير الأشغال، ولا يقبلون شيئاً  لحل أزمة السير وإنصاف العاملين في قطاع النقل. 

قمنا بعملية التفاف عليهم. عقدنا سلسلة اجتماعات مع "الشركاء" في القطاع. الشركات الخاصة. اتحادات ونقابات السائقين العموميين وأصحاب الشاحنات والدولة. توصلنا الى خطة نقل كانت الأولى من نوعها ولم يقرّ غيرها حتى الآن. وقدمت الى مجلس الوزراء. كان نقـــاش مســتفيض حولها. وهي تؤمن النقل العام الى كافة المناطق اللبنانية. حدّدنا 900 نقطة في لبنان. وضمنها إجراءات لحماية السائقين العموميين، ووضع حد لمستخدمي لوحات مزورة، وأقررنا نظاماً لحركة سير الشاحنات، ووضعنا شارات على سيارات النقل لمنع استخدام لوحة واحدة على أكثر من سيارة، واشترينا المعدات اللازمة، لكن الأجهزة المعنية بتنفيذ هذه الإجراءات لم تقم بواجبها وكل ذلك في سياق التوجيه السياسي بإجهاض الخطة والتركيز على القطاع الخاص. 

وقاحة ما بعدها وقاحة. بل أقول أكثر من ذلك، قلة مسؤولية وتهرّب من التزام سياسي وأدبي وأخلاقي لتنفيذ قرارات مجلس الوزراء ولمنع تنفيذ الخطة. الخطة الوحيدة التي أقرّت في لبنان. وبكل أمانة وتواضع وراحة ضمير أقول: الخطة نتاج شراكة عامة. طيلة وجودنا ثلاث مرات في الوزراة ولست سنوات تقريباً، لم يصدر بيان من أحد في قطاع النقل ينتقد خطوة أو إجراء من الوزارة، بل على العكس من ذلك لا يزال المعنيون عن القطـــاع حتى الآن يزورون كل"المســــؤولين" ويطالبون بتطبيق الخطة ويقولون – مع الاعتذار – خطة الوزير العريضي. نحن قمنا بواجب. وانقلب على الواجب كل الآخرين المعنيين لأن الواجب عندهم خدمة مصالحهم والالتزام بتوجيه شهواتهم ويتحدثون عن العبور الى الدولة وبناء المؤسسات وتفعيلها !! أحدهم ذهب الى عقد مع مؤسسة أجنبية لتنفيذ دراسة بمئات آلاف الأورو لجزء من سكة الحديد المعتدى عليها والمعطّلة في معظم المناطق اللبنانية ودون أخذ رأي أو إبلاغ وزارة الأشغال ولم يحصد شيئ حتى الآن!! هكذا يعملـــون ويسهرون على المؤسسات ويركّزون عيونهم على البلد!!

اليوم كارثة في قطاع النقل. أزمة محروقات. نار أسعار. مشاكل على المحطات. الكل يتحدث عن قطاع عام. نقل عام. مساعدة هذا القطاع. تفعيله!! كل هذا مهم لكنهم يأتون أو يعودون إليه في التوقيت "الغلط" ومع المسؤولين "الغلط". الغلط بكل شيئ!! 

لا نقل عام. ولا محروقات. ولا دعم. ولا بطاقات تمويلية مخصصة لسيارات النقل العمومية الخاصة وقد سبق أن أقدم عليها الرئيس الشهيد رفيق الحريري. باختصار الذين فعلوا ما ذكرت، مجرمون بكل ما للكلمة من معنى، كذابون، منافقون، لا يهمهم القانون ولا يقفون عند مصالح الناس!! وواحدة من مسرحياتهم البشعة مستمرة في المجلس النيابــي. نحن قمنــا بواجبنا وضميرنا مرتاح لكن خاطرنا مكسور مما نراه اليوم، ولم ولن نغيّـر رأينا بـ "قامات" الجهل والجشع والطمع والكسل والفشل والحقد والنكد... .