Advertise here

بايدن ـ بوتين... قمة فن الممكن

22 حزيران 2021 09:27:13

لم يكن أحد يتوقّع قرارات استراتيجية من القمة التي عقدت بين بايدن وبوتين في جنيف الأربعاء الفائت، لأنّ جبل الجليد القائم بين القوتين العظميين كبير جداً،

والملفات الخلافية تعكس التناقض الكبير في قراءة تركيبة النظام الدولي وطريقة إدارته والتوازنات القائمة فيه.

 

بعد التحول الذي قام به بوتين في العام 2008 والذي حمل معه الخصومة مع الغرب ومع السياسات الاقتصادية الليبرالية، أصبحت النظرة الغربية إليه سلبية، وازداد الأمر تعقيداً عندما راهن بوتين على تراجع دور الولايات المتحدة الأميركية وقيام فرصة نشأة نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب.

 

بالنتيجة، السياسة الخارجية التي انتهجها بوتين منذ افتتاحه التحول هذا، وإحكام قبضته على السلطة داخل روسيا وتقويض منافسيه، جعلت الأميركيين ينظرون إليه "رجل مخابرات سابقاً لا يرحم ويفرض إرادته على روسيا".

 

كذلك، جعلتهم ينظرون بريبة إلى استراتيجيته التي تهدف إلى تقويض النفوذ الأميركي في كل مكان من ليبيا إلى سوريا إلى أوكرانيا، فضلاً عن تدخله في الانتخابات الأميركية واستخدام الهجمات الإلكترونية لضرب البنى التحتية الأميركية. قرار بوتين بضمّ شبه جزيرة القرم عام 2014 والتدخل العسكري المستمرّ في شرق أوكرانيا، وممارسته القوة الصارمة في حقّ المعارضين وزجّ زعيمهم نافالني في السجن، وكذلك أحد رجال الأعمال الأميركيين، أدّت إلى وصول العلاقات الأميركية - الروسية إلى أدنى مستوياتها منذ نهاية الحرب الباردة.

 

الإعجاب المتبادل بين بوتين وبين الرئيس الأميركي السابق ترامب، أصبح من عالم مضى، وتوجّهات إدارة بايدن المستقبلية التي أعلن عنها في آذار من العام الفائت في إطار الدليل الاستراتيجي للأمن القومي الأميركي، وضعت روسيا في موقع المنافسة مع الولايات المتحدة الأميركية. على وقع هذه التحديات وصل بايدن إلى القمة في جنيف متسلحاً بنتائج اجتماع الدول الصناعية السبع واجتماع دول حلف الناتو، الذين أعربوا عن مواقف موحدة تجاه التحديات التي تفرضها الصين وتلك التي تفرضها روسيا لاسيّما في شرق أوروبا.

 

ويبدو أنّ ورقة اللعب على الانقسامات الأميركية الأوروبية التي كانت لسنوات إحدى أدوات بوتين الفعالة لم تعد صالحة، وإنّ الاستثمار فيها تلاشى مردوده السياسي مع تطور الموقف الأميركي والأوروبي في قضايا متعدّدة.

 

في المقابل، بوتين القادم إلى جنيف في العهد الثالث من حكمه مع أقصى التوقعات تخفيف التوتر والعودة إلى تبادل السفراء، يدرك تماماً نقاط القوة لروسيا التي استعادت معه موقعها كقوة عظمى لاسيّما في دورها الحاسم في الاستقرار العالمي وكذلك في استقرار سوق الطاقة.

 

كما يدرك التحديات التي تواجه موسكو على الصعيد الاقتصادي، ومدى تاثير العقوبات الأميركية منذ العام 2014، ونهاية طفرة أسعار النفط التي عزّزت شعبيته في السنوات الأولى من حكمه على خلفية الازدهار والنمو الاقتصادي الذي تحقّق بين عام 1998 وعام 2008.

 

ويبدو أنّ هذه المرحلة الذهبية من صعود شعبية بوتين الداخلية تأخذ بالانحسار حيث إنّ استطلاعات الرأي التي جرت هذا العام تؤكّد تراجع شعبية بوتين، و"انخفض التأييد لولاية خامسة له من 70 في المائة إلى 48 في المئة، وقال 41 في المئة من الروس الذين شملهم الاستطلاع إنّهم يفضلون التنحي.

 

يدرك بوتين أيضاً أنّ السياسة الخارجية الصارمة تجاه الغرب تشكّل إحدى العقبات الرئيسية أمام الاقتصاد الروسي وتحدّ بشكل كبير من فرص الاستثمار في روسيا.

 

في الوضع الحالي، يفضّل المستثمرون الروس وضع رؤوس أموالهم في ملاذات آمنة خارج روسيا، ولم يتجاوبوا مع دعوات سيد الكرملين لإعادة رؤوس أموالهم إلى بلدهم.

 

توجهات بوتين في السياسة الخارجية وضعف المؤسّسة التشريعية في مواجهة السلطة التنفيذية والبيروقراطية القاتلة للإدارة في روسيا، وسياسة القمع أدّت إلى تخويف المستثمرين الأجانب وتقليص وصول روسيا إلى التكنولوجيا والتمويل الأجنبي.

 

بوتين وعدد من مستشاريه الاقتصاديين يعلمون حجم المأزق الاقتصادي الكبير في روسيا لاسيّما بعد نهاية الطفرة في أسعار النفط، كما يعلمون أنه من غير المحتمل أن يعزّز النمو الاقتصادي إذا استمرّت السياسة الخارجية لروسيا في هذا المنحى التصادمي مع الغرب.

 

لذلك مراجعة هذه السياسة، وتقديم أولويّة الاقتصاد على غيرها من الأولويات، تبقى أحد الخيارات المرتبطة بالمشهد الجيوسياسي الجديد.

 

نظرية بوتين في فرصة روسيا الذهبية في إقامة عالم متعدّد الأقطاب بعد أزمة 2008 ورؤيته لدور روسيا كقوّة عظمى وأهميّة الاستفراد في المجال الحيوي المتمثل بمنطقة نفوذ الاتحاد السوفياتي السابق في شرق أوروبا وآسيا الوسطى، تقف بالتأكيد وراء سياسته الخارجية المتشدّدة تجاه الغرب.

 

من غير المنطقي أنّ تتجاهل الدولة الروسية ونظام بوتين السياسي حقبات مهمّة في تاريخ روسيا منذ نهاية عهد عائلة رومانوف، مروراً بالحرب الباردة ولاحقًا دور الولايات المتحدة الأميركية وحلف "الناتو" في يوغوسلافيا والثورات الملوّنة التي حصلت في جورجيا وأوكرانيا وقرغيزستان، وصولاً إلى تمدّد حلف "الناتو" في منطقة النفوذ التي تهدّد روسيا التي ما تزال تسكن في وعي مسؤوليها وشعبها غزوات نابوليون وهتلر والمآسي التي خلّفتها.

 

في هذا السياق، ليس من المستغرب أنّ ينقلب بوتين على استراتيجية الكرملين بعد الحرب الباردة ويقوّض مسار التحالف مع الغرب وبناء النظام الاقتصادي الحرّ، وهو القائل إنّنا: "أظهرنا أنفسنا ضعفاء، والضعيف يتعرّض للهزيمة".

 

في النهاية، قمة كسر الجليد وفن الممكن جرت في أجواء مقبولة، وعبّر كل من الرئيسين عن الخطوط الحمر لإدارته وعن مواقفه بطريقة احترافية، ووجّها الرسائل السياسية المتعدّدة بعد القمة التي تعيد فتح الباب للحوار ولدور الديبلوماسية في التصدّي للخلافات العميقة بين البلدين.

بالتأكيد، لن تعود الحرب الباردة بين البلدين، ولن تقع المواجهة العسكرية المباشرة في أيّ من مناطق التوتر، وسوف نشهد عودة السفيرين الأميركي والروسي إلى موسكو وواشنطن.

 

ولكن يبقى السؤال الذي يختزن أبعاداً جيوسياسية: هل يستمرّ بوتين بقراءة النظام العالمي وتوازناته على النحو الذي أخذه بعد العام 2008، وبالتالي الاستمرار في الرهان على ضعف أميركا وتقهقرها وتحقيق فرصة قيام عالم متعدّد الاقطاب مهما كانت أثمان هذا الخيار؟ أم ينظر بوتين إلى التحدّيات الاقتصادية والمعضلات الجيوسياسية التي تواجه روسيا إن في منطقة نفوذ الاتحاد السوفياتي السابق أو في الدور الذي تتحضر له الصين لإزاحة أميركا عن قيادة العالم، وذلك بشكل يسمح له برسم سياسة خارجية أكثر مرونة تتيح لروسيا أنّ تعيد الازدهار إلى اقتصادها وأنّ تتموضع في المكان الذي يحافظ على موقعها كقوة عظمى بين المشروعين الأميركي والصيني؟

 

الجواب عن هذا السؤال يبقى برسم الأميركيين وذلك في التخلّي عن وهم تطويق روسيا في مجالها الحيوي وتحويلها إلى دولة تحكمها القيم الليبرالية، وبالتالي استعدادهم "ليالطا جديدة " تستجيب من جهة لحاجات الأمن القومي للاتحاد الفيدرالي الروسي في شرق أوروبا، ومن جهة أخرى تضمن حماية أوروبا من طموحات قيصرية ما زالت تقض مضاجع الأوروبيين.