Advertise here

هل يستعيد الدور العربي حضوره بعد حقبة من التراجع؟

17 حزيران 2021 20:25:37

ثمّة مَن يتعامل مع تراجع الدور العربي في غفلة معقدة من التاريخ كأن هذا الدور غاب نهائياً ووصل الى خاتمته، وبعضهم يتعامل مع الوقائع الآنية في الإقليم كأنها حالة مستدامة وأهم نتائجها إنقراض العروبة وليس تراجعها مرحلياً فقط. يوجد جهل لبعض محطات التاريخ، وأوهام لا تستند الى أدلة دامغة. وهناك مشتبهون يخلطون بين الحالة العربية والنظام العربي، ولا يدققون في كون الأنظمة تنقرض معالمها عندما يسقط حكامها، بينما العروبة حالة ثابتة يتقلَّص دورها او يتمدَّد قياساً لنهضة أبنائها او إنكفائهم في كل مرحلة.
 
نقول إن العروبة حضارة، وحالة ثقافية وفكرية تاريخية، وعصبٌ قومي متجذِّر، كي لا ندخل في دهاليز الإثنيات والأعراق والأديان، ولم تكُن في يومٍ من الأيام نظاماً. وقد عرفت حقبات مدٍ وجزر، ووصلت حيناً الى مراتب متقدمة بين الأُمم، إذا لم نقل أنها تقدمت على باقي الأُمم، كما عاشت إخفاقاتٍ متعددة في أحيان أُخرى، وتراجعت مكانتها ولكنها لم تنقرض. ورغم التغييرات الهائلة التي حصلت إبان المدّ أو الجزر، يمكن القول إن ثوابت حكَمت مسيرتها، ومنها: الفُطرة الآدمية للعربية (وقيل قديماً: عربٌ عُرباء: أي صُرحاء خُلَّص)، وهذه الفطرة الصافية ارتكزت على قابلية التعايش مع الاختلافات، وهو ما سمح للديانات السماوية السمحاء في أن تترعرع على مساحات الجغرافيا العربية المترامية، بدءاً من المحيط الهندي شرقاً الى المحيط الأطلسي غرباً، والإنطلاق منها الى العالم أجمع.
 
والعربية التي ولدت مع سام ابن نوح، وانتشرت مع العماليق الذين يتحدَّر منهم فراعنة مصر وجبابرة الشام؛ لم تتآكل حتى قبل أن تصبح مكتوبة، وهذا ينطبق على المراحل التي عاشت فيها الفرعونية والكنعانية والفينيقية في هذه المنطقة، رغم أن هؤلاء لم يحملوا اسمها. كما أن الرومانية والبيزنطية والساسانية والطورانية الذين استولوا على المساحة العربية لقرون، وبأزمنةٍ مختلفة؛ لم يتمكَّنوا جميعهم من إلغاء الفكرة العربية، ولا تدمير أسسها الثقافية واللغوية. والعربية جمعت أبناء الديانات المختلفة قبل الإسلام الحنيف وبعده، ولم تكُن حاضنة للإسلام فقط.
 
من الواضح أن التطورات الدولية التي حصلت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في عام 1990 لم تكُن في صالح العرب. والتشجيع الدولي على استكمال مسلسل الصراع الذي كان انتهى للتوّ بين العراق وايران، أغرق الساحة العربية في توتراتٍ جديدة، وساعد جنوح بعض القادة العرب على إفتعال مشكلات وازنة، منها اجتياح الكويت الذي كان سبباً رئيسياً لإجهاض الاندفاعة العربية التي انطلقت مع البحبوحة النفطية. وما تلا هذا الاجتياح أدى الى إحداث تغييرات هائلة في المنطقة، كرستها الغزوة الأميركية للعراق عام 2003، كهزيمة عربية وانتصار للجيران الطامعين بتصدير الثورة، لأن تدمير العراق يعني بالدرجة الأولى تحطيم العدو الذي وقف في وجه إيران لأكثر من 8 سنوات، بصرف النظر عن المقاصد الأميركية التي كانت خلف الدخول الى بلاد ما بين النهرين.
 
أصيب الأمن القومي العربي بنكسات عدة، قبل احتلال العراق وبعده، والخلافات العربية - العربية أدت الى إعاقة مشروع تطوير العمل العربي المشترك على المستويات الدفاعية والصناعية والتجارية الثقافية. وقد استغلت إسرائيل هذه الأوضاع لتؤسس لمقاربة عدوانية جديدة تعتمد على بث سموم التفرقة العرقية والدينية والجهوية بين عناصر الأمة. لكن العامل الأهم الذي أدى الى زعزعة الأمن القومي العربي؛ كان الدخول الإيراني من البوابات العراقية الواسعة التي شلَّعتها وشرّعتها القوات الأميركية التي دخلت البلاد، وقد تعددت مقاصد الإنفلاش الإيراني الى الحدود التي التبست معها قناعات جزء كبير من العرب، واعتبروا أن هذا الانفلاش هدفه المساعدة في تحرير القدس ومساندة الشعب العربي الفلسطيني في نضاله المشروع لتحرير أرضه المغتصبة.
 
المحطات الحاسمة التي أدت الى ضياع الدور العربي - او تراجعه - خلال السنوات الماضية؛ كانت استغلال قوى أقليمية ودولية كبرى لما سُميَ بالربيع العربي وما تلاه من أحداث دموية في اليمن وليبيا وسوريا على وجه التحديد. وكان من بين أهم هذه القوى: إيران وتركيا، وكلاهما يملك مشروع استعادة أمجاد امبراطورية غابرة، وهدفهما تحقيق أطماع توسعية تحت شعاراتٍ إسلامية فقهية او "إخوانية". وبالفعل، فقد أصاب الإرباك والضياع الدور العربي الجامع، وتراجعت مكانة جامعة الدول العربية الى الحدود الدنيا منذ ذلك الحين، وفقد العمل العربي المشترك رونقه الجامع وتأثيره الفاعل في الأسرة الدولية، وبدا كأن الاختلافات التنافسية الواسعة والمتشعبة بين الدول الكبرى تحوَّلت الى تفاهمات غير مُعلنة في المنطقة لتوزيع غنائم الخسارات العربية عليها، ولا نستثني من هذا الاتهام أي منها، بما في ذلك روسيا والولايات المتحدة الأميركية وإيران وتركيا وإسرائيل.
 
تبدو في الصورة اليوم بداية استنهاض للدور العربي من خلال الحيوية التي يستعيدها المشهد المصري والخليجي وعلى درجة أقل في المغرب العربي والعراق، ويساهم في هذه الحيوية؛ اندفاعة شعبية متعاطفة مع قضية فلسطين ومتشوِّقة لحضور عربي مؤثر، وهذه الاندفاعة كانت قد اختنقت جراء الانحباس الذي أصابها في السنوات العشر الماضية بفعل فرض معادلة "الدماء او الحرية" كخياراتٍ حصرية.
 
هل تساعد المعطيات الجديدة، لا سيما منها تجدُّد الانقسام الدولي، في عودة الدور العربي الفاعل، وبالتالي وقف مسلسل التراجع والغياب لهذا الدور وهو الذي لم تتمكن أي من الأحداث الكبرى في التاريخ من إنهائه؟
 
*استاذ في العلاقات الدولية والقانون الدولي العام