"البوذيّة والهندوسية: في التصوّف والعرفان والفرق الإسلامية الباطنية والمتطرّفة"، تأليف المعلّم كمال جنبلاط، والشيخ الدكتور محمّد علي الزعبي، وعلي زيعور، صدر عن دار البراق في بيروت في 308 ص.
عملٌ حواريّ بامتياز يُعاد نشره، ودرّة فاخرة في مجال الأديان المقارنة، كتبه اثنان من جهابذة الفكر الديني وعلوم الأديان في لبنان، وكان في الأساس نتاج حوارٍ معمّق وجلسات نقاشٍ عديدة بينهما. المعلّم كمال جنبلاط (1917-1977). والشيخ محمد علي الزعبي (1917-1982؟) المدرّس في الجامع الكبير (منذ 1945) وخطيب جامع الأمير عسّاف في بيروت.
وعن هذا الحوار المثمر والبنّاء يروي علي زيعور المؤلّف الثالث للكتاب (ص9): "أبدى المعلّم [جنبلاط] احتراماً شديداً للشيخ. وكان قد قرأ للشيخ كتاباً عن الأديان الإبراهيمية الثلاثة. (...) وأُعجب المعلّم بفكرة ثانية قالها الشيخ، ومفادها أن إبراهيم وبراهما قد يكونان نبيّاً واحداً. كما أثنى بابتساماتٍ رحبةٍ، مفرطة في الوداعة والرقّة، على فكرة أن بوذا في نظر الإسلام، نبيّ. (...) واستمرّ المعلّم هو والزعبي مهتمّين جدّاً بقراءة الإسلام والمسيحية واليهوديّة معاً، في بنية واحدة تفاعليّة. وكانا شديدَي الانفتاح على المسيحيّة".
لبنان ما قبل الحرب كان فعلاً واحة لقاء وحوار مثمر بين الثقافات والأديان، وليته يعود، أو بالحري ليتنا نعيده كما كان!
ويستوقفنا رأي الشيخ الزعبي في بوذا وسائر حكماء الهند، فهو يعتبرهم أنبياء (ص40): "الهند تتّصف بتعدّد الأنبياء الصالحين، أو الداعين لإصلاح النفس (...) من هؤلاء بوذا، وهناك وجهة نظر إسلامية ترى أن بوذا نبيّ، وإن لم يرد اسمه في القرآن الكريم الذي لم يتحدّث عن جميع الأنبياء والرسل كما تقول الآية الكريمة: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص}" (غافر/78).
وعن ديانته وتعليمه يقول الزعبي (ص42): "البوذية نظام حياة رائع يملأ القلب وداعة ونعمة، ويُفعم النفسَ محبّة وطهراً، ويشرق على الذات فيضاً نبيلاً من الروحية والتجاوز الخلقي. إن غاية البوذيّة هي تلك الحالة النفسية المتّزنة، بل التامّة الاتّزان". وهنا يقارن بينها وبين التصوّف فيرى شبهاً بيّنا، بل امتداداً لها فيه. فيتابع: "لقد عرفها العرب الأقدمون في شكل التصوّف الإسلامي خاصّة، وفي فلسفة المعرّي. أمّا تلك القمّة، أو الجنّة الأرضية التي يصل إليها الممارس، فهي بالفعل حالة السموّ والتسامي والصلابة الداخليّة التي يقال إنّها من العلوم اللدنية، أو العلوم التي لا تُشرح وتفسّر، وإنّما تُفهم وتحسّ بالذوق والحال".
وينقل الزعبي عن مصادر البوذيّة الأولى سيرة المغبوط وأبرز تعاليمه. فيظهّره لنا عالم نفس يعرف كل خباياها وخفاياها، ويعلّم بوضوح كيف يستطيع المرء أن يعالج عللها وأدوائها. ففي الانفعالات السلبية التي تقضّ مضاجع أكثر الناس من المهد إلى اللحد يقول بوذا (ص59): "الخوف ليس سوى الوهم، الوهم الناتج عن الجهل". ويشرح المغبوط تعليمه هذا قائلاً (ص68): "قد يصدف أن تمسّ قدمك حبلاً فتظنّه حيّة لدغتك، فيملأ الرعب شغاف قلبك، إلا أنّك سرعان ما تبتهج عندما تعرف خطأك، إذ إن خوفك كان في جهلك وتوهّمك. حتى إذا عرفت أنّك وطئت حبلاً لا حيّة وجدتَ اطمئنانك. تلك هي حالة الإنسان الذي يعرف وهم الشخصيّة، ويعرف من ثمّ أن سبب آلامه هو شيء يشبه الطيف الذي يمرّ بالأحلام".
ويمضي المغبوط شارحاً وموضّحاً (ص56): "يحيط بي الألم من كلّ الجهات، كلّ شيء في الحياة وهم. وليس في الحياة سوى الوهم وتبدّد الوهم".
وعن الانفعال الثاني الذي لا يقلّ خطراً عن الخوف يقول (ص95): "لم يخلق الجحيم أحدٌ من الناس. إن نار العقل المرخي زمامه للغضب هي التي توقد الجحيم، وتحرق فيه صاحبها".
ورأى غوتاما أن الناس ثلاث فئات (ص67): "فئة في الكذب، وستبقى فيه، وأخرى في الحقيقة، والثالثة في الشكّ".
ويؤكّد المغبوط (ص84): "لن تدخلوا النيرفانا بدون المحبّة"، كتاب يستحقّ أن يدخل مكتبة كل باحثٍ رصين.
(*)نشرت في مجلّة الأمن الصادرة في بيروت عن المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي، العدد 353، حزيران 2021، ص106